التمثيل الثالث والثلاثون – سورة الكهف
﴿وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً﴾.(1)
تفسير الآيات:
"الهشيم": ما يكسر و يحطم في يبس النبات، و"الذر" و التذرية: تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.
تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها، فعندئذٍ تبتدىَ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الأزهار الرائعة، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر على طول السنة ويشاهده الإنسان بأُمّ عينه، دون أن يعتبر بها، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.
يقول سبحانه: ﴿واضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض﴾ على وجه يلتف بعضه ببعض، يروق الإنسان منظره، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة، وهذا ما يعبر عنه القرآن، بقوله : ﴿فأصبح هشيماً﴾ أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات ﴿و كان الله على كلّ شيء مقتدراً﴾.
ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها، فهكذا الأموال والبنون.
وإنّما هي زينة للحياة الدنيا، فإذا كان الأصل موَقتاً زائلاً، فما ظنّك بزينته، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً، قال سبحانه: ﴿المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا﴾.
نعم، الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأخروية، قال سبحانه: ﴿وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا﴾.(2)
ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية.(3)
ايقاظ:
ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله: ﴿وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الإنسان أكثر شيء جدلاً﴾.(4)
والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.
ومعنى قوله: ﴿ولقد صرّفنا﴾ أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة و مع ذلك ﴿وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً﴾ أي أكثر شىء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.
1-الكهف:45.
2-مريم:76.
3-انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس 25، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد، الآية 20.
4-الكهف:54.