طريقة معرفة المكي والمدني
بدأ المفسرون عند محاولة التمييز بين المكي والمدني بالاعتماد على الروايات والنصوص التاريخية التي تؤرخ السورة أو الآية وتشير إلى نزولها قبل الهجرة أو بعدها وعن طريق تلك الروايات والنصوص التي تتبعها المفسرون واستوعبوها استطاعوا أن يعرفوا عدداً كبيراً من السور والآيات المكية والمدنية ويميزوا بينها.
وبعد أن توفرت لهم المعرفة بذلك اتجه كثير من المفسرين الذين عنوا بمعرفة المكي والمدني إلى دراسة مقارنة لتلك الآيات والسور المكية والمدنية التي اكتشفوا تأريخها عن طريق النصوص وخرجوا من دراستهم المقارنة باكتشاف خصائص عامة في السور والآيات المكية وخصائص عامة أخرى في المدني من الآيات والسور فجعلوا من تلك الخصائص العامة مقاييس يقيسون بها سائر الآيات والسور التي لم يؤثر توقيتها الزمني في الروايات والنصوص فما كان منها يتفق مع الخصائص العامة للآيات والسور المكية حكموا بأنه مكي وما كان اقرب إلى الخصائص العامة للمدني وأكثر انسجاماً معها أدرجوه ضمن المدني من الآيات بالسور.
وهذه الخصائص العامة التي حددت المكي والمدني بعضها يرتبط بأسلوب الآية والسورة كقولهم إن قصر الآيات والسور وتجانسها الصوتي من خصائص القسم المكي وبعضها يرتبط بموضوع النص القرآني كقولهم مثلاً أن مجادلة المشركين وتسفيه أحلامهم من خصائص السور المكية.
ويمكن تلخيص ما ذكروه من الخصائص الأسلوبية والموضوعية للقسم المكي فيما يأتي: -
1 - قصر الآيات والسور وإيجازها وتجانسها الصوتي.
2 - الدعوة إلى أصول الإيمان بالله واليوم الآخر وتصوير الجنة والنار.
3 - الدعوة للتمسك بالأخلاق الكريمة والاستقامة على الخير.
4 - مجادلة المشركين وتسفيه أحلامهم.
5 - استعمال السورة لكلمة يا أيها الناس وعدم استعمالها لكلمة يا أيها الذين آمنوا.
وقد لوحظ ان سورة الحج تستثنى من ذلك لانها استعملت الكلمة الثانية بالرغم من انها مكية فهذه الخصائص الخمس يغلب وجودها في السور المكيّة.
وأما ما يشيع في القسم المدني من خصائص عامة فهي: -
1 - طول السورة والآية وإطنابها.
2 - تفصيل البراهين والأدلة على الحقائق الدينية.
3 - مجادلة أهل الكتاب ودعوتهم إلى عدم الغلو في دينهم.
4 - التحدث عن المنافقين ومشاكلهم.
5 - التفصيل لإحكام الحدود والفرائض والحقوق والقوانين السياسية والاجتماعية والدولية.
موقفنا من هذه الخصائص
وما من ريب في أن هذه المقاييس المستمدة من تلك الخصائص العامة تلقي ضوءاً على الموضوع وقد تؤدي إلى ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر في السور التي لم يرد نص بأنها مكية أو مدنية فإذا كانت إحدى هذه السور تنفق مثلاً مع السور في أسلوبها وإيجازها وتجانسها الصوتي وتنديدها بالمشركين وتسفيه أحلامهم فالأرجح أن تكون سورة مكية لاشتمالها على هذه الخصائص العامة للسورة المكية.
ولكن الاعتماد على تلك المقاييس إنما يجوز إذا أدت إلى العلم ولا يجوز الأخذ بها لمجرد الظن ففي المثال المتقدم حين نجد سورة تتفق مع السور المكية في أسلوبها وإيجازها لا نستطيع أن نقول بأنها مكية لأجل ذلك إذ من الممكن أن تنزل سورة مدنية وهي تحمل بعض خصائص الأسلوب الشائع في القسم المكي، صحيح انه يغلب على الظن ان السورة مكية لقصرها وإيجازها ولكن الأخذ بالظن لا يجوز لأنه قول من دون علم.
وأما إذا أدت تلك المقاييس إلى الاطمئنان والتأكد من تاريخ السورة وإنها مكية أو مدنية فلا بأس بالاعتماد عليها عند ذاك ومثاله النصوص القرآنية التي تشتمل على تشريعات للحرب والدولة مثلاً فان هذه الخصيصة الموضوعية تدل على أن النص مدني لان طبيعة الدعوة في المرحلة الأولى التي عاشتها قبل الهجرة لا تنسجم إطلاقا مع التشريعات الدولية فنعرف من اجل هذا إن النص مدني نزل في المرحلة الثانية من الدعوة أي في عصر الدولة.
المصدر:
كتاب علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم.