حقيقة التأويل
التأويل يستعمل بمعنى توجيه المتشابه، وهو تفعيل من الأول
بمعنى الرجوع لأن المؤول عندما يخرج للمتشابه وجهاً معقولاً، هو آخذ بزمام
اللفظ ليعطفه إلى الجهة التي يحاول التخريج إليها، ومن ثم يستعمل في تبرير
العمل المتشابه أيضاً، كما في قصة خضر عليه السلام قال لصاحبه: ﴿سَأُنَبِّئُكَ
بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾
أي سأطلع على السر المبرر لأعمال أثارت شكوكك ودعتك إلى الاعتراض.
إذن فكل لفظ أو عمل متشابه- أي مثير للريب- إذا كان له توجيه
صحيح، فهذا التوجيه تأويله لا محالة. وعليه فالفرق بين التفسير والتأويل،
هو أن الأول توضيح ما لجانب اللفظ من إبهام، والثاني توجيه ما فيه من مثار
الريب،وقد سبق مابين عوامل الإبهام والتشابه من فرق. هذا، وقد اصطلحوا-
أيضاً- على استعمال التأويل في معنى ثانوي للآية، فيما لم تكن بحسب ذاتها
ظاهرة فيه، وإنما يتوصل إليه بدليل خارج، ومن ثم يعبر عنه بالبطن، كما يعبر
عن تفسيرها الأولي بالظهر، فيقال: تفسير كل آية ظهرها، وتأويلها بطنها.
والتأويل بهذا المعنى الأخير، عام لجميع آي القرآن كما في
الأثر: (ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن) وقد سئل الإمام محمد بن علي
الباقر عليه السلام عن ذلك فقال: (ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما قد
مضى ومنه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس والقمر) وقال عليه السلام أيضاً:
(ظهر القرآن الذين نزل فيهم، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم) فقد جاء
التنزيل- في كلامه عليه السلام- بمعنى التفسير، أي إن للآية مورد نزول يكشف
عن مدلولها الأولي المنصرم، ويعبر عنه بسبب النزول، ولا غنى للمفسر عن
معرفة أسباب النزول في كشف إبهام الآية، كما في آية النسيء وآية نفي الجناح
عن السعي بين الصفا والمروة وآية النهي عن دخول البيوت من ظهورها ونحوها
كثير.
نعم هناك عموم ثابت أبدي تنطوي عليه الآية، وبذلك تشمل عامة
المكلفين مع الأبدية، وهو بطنها وتأويلها الذي يعرفه الراسخون في العلم،
ولولا ذلك لبطلت الآية. قال الإمام الباقر عليه السلام: (ولو أن الآية إذا
نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية،لما بقي من القرآن شئ. ولكن
القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض. ولكل قوم آية يتلونها
هم منها من خير أو شر) وقد صح عن رسول اللهم صلى الله عليه وآله قال: (أن
فيكم من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله،وهو علي بن أبي
طالب) فقد قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله على تطبيق القرآن الخاص حسب
مورد نزوله، وقاتل علي عليه السلام على تطبيقه
العام على مشابه القوم.
فقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ
بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ
اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
نزلت رادعة لعادة جاهلية، كان الرجل إذا أحرم نقب في مؤخر بيته نقباً، منه
يدخل ومنه يخرج. وهذه العادة أصبحت لا وجود لها بعد أن باد أهلها. غير أن
الآية لم تمت بذلك وإنما بقي عموم ردعها عن إتيان الأمور من غير وجوهها
بصورة عامة فهذا تأويلها المنطوي عليه الآية، يعمل
بها مع الأبد.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ﴾.
تفسيرها: أن الله هو الذي ﴿أَنزَلَ مِنَ
السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ
زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾
وهذا معنى ظاهري يدل عليه ظاهر اللفظ. وجاء في تأويلها: إذا فقدتم حجة من
حجج الله الذين كنتم ترتوون من عذب نميرهم، فمن الذي يأتيكم بحجة أخرى
يواصل هديكم في ركب الحياة. وهذا المعنى يعبر عنه
بالبطن، لا يجرأ أحد على بيانه إلا بنص معصوم. واستعارة ينبوع الماء، كذلك
الهداية الإلهية هي أصل الحياة العليا السعيدة.
ويتلخص الكلام في حقيقة التأويل أنه يستعمل في
موردين:
الأول: في
توجيه المتشابه، سواء أكان كلاماً متشابهاً، أم عملاً مثيراً للريب.
والتأويل بهذا المعنى خاص بالآي المتشابهة فحسب.
الثاني: في
المعنى الثانوي للكلام، المعبر عام لجميع آي القرآن، فإن للقرآن ظهراً
وبطناً، وربما إلى سبعة بطون.
المصدر:
كتاب التمهيد في علوم القرآن، سماحة الشيخ محمد هادي معرفة