المطلب الأول: هل يجوز نسخ شريعة بتشريع شريعة أُخرى أم لا؟
الحق انه نعم يجوز، وخالف اليهود في ذلك وقالوا أن شريعة موسى(ع) خالدة غير منسوخة، ولا ينبغي الشك في أنهم لا يقولون بالاستحالة العقلية، كيف وهي تستلزم القول بعد مشروعية دين موسى الناسخ للأديان السابقة له، وإنما ذهبوا إلى ذلك افتراء على موسى بأنه قال: شريعتي مؤبّدة، إذ العكس صحيح ومأثور عنه وهو البشارة بنبينا محمد(ص) كما في التوراة وإنجيل برنابا من بشارة عيسى(ع) أيضًا بمجيء نبي من بعده اسمه أحمد(ص).
والتحقيق في باب نسخ الأديان أن الأديان عبارة عن مدارس تربوية تدريجية بحيث تكون كل مدرسة مكملة للأخرى إلى أن وصل الدور إلى آخر مدرسة إلهية صح في موردها نزول قوله تعالى﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾(1)، وعل هذا فيكون كل نبي مكملاً ومتممًا لما أتى به النبي السابق.
ويدل على ذكرنا قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾(4)، وهذه الآيات تدل على أن الشريعة اللاحقة ليست مزيلة للشريعة السابقة على نحو الإطلاق بل مكملة لها، ولذا نحن نؤمن بأنبياء الله وكتبه ورسله، قال تعالى﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾(5).
بل لا يعقل نسخ جملة من الأحكام كوجوب الاعتقاد بالمعارف الإلهية الحقة ووجوب العدل وحرمة الظلم.
نعم نسخت بعض الأحكام وإلا فجميع الأديان مشتركة في التوحيد والنبوة والمعاد، بل الإمامة، لأنه كان لكل نبي وصي، فالشريعة إنما هي مداري إلهية تكاملية إلا بالنسبة إلى جملة من الأحكام التي كانت ذات مصالح زمنية وكانت في أغلبها مشقة اقتضت المصلحة تحميلها على بعض الأمم، ويدل على قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾(6)، الآية..
وبالجملة، نسخ الأديان بالمعنى الّذي قلنا من مجيء الشريعة كل تلو الأخرى أمر بديهي ضروري تاريخيًا لا مجال لإنكاره، فاليهود مجازفون في هذه الدعوى التي تكذبها حتى توراتهم المحرقة وقد سمعت أن عيسى(ع) قد بشر بمجيء نبينا(ص)، وقال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾(7) وناهيك على ذلك معرفة الأخبار بنبوة نبينا(ص) وعلم الرهبان بسماته وصفاته.
المطلب الثاني: في الاستدلال على امتناع النسخ في الأحكام عقلاً والجواب عنه:
يمكن أن يستدل على امتناع النسخ بأمرين:
1- الشيء لا يخلو اما أن يكون ذا مصلحة يؤمر به لأجلها أم لا، فإن كان ذا مصلحة وجب عقلاً أن يؤمر به كل مكلف في كل زمان على مذهب العدلية والإمامية القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين، وإن لم يكن ذا مصلحة وجب ألا يؤمر به فضلاً عنا إذا كان فيه مفسدة إذ وجب أن ينتهي عنه، ومن المعلوم أن النسخ عبارة عن إزالة الحكم عن الوعاء المناسب له وهو وعاء التشريع، فإذا أمر الشارع بشيء في زمان لا يمكن أن ينتهي عنه في زمان آخر.
والجواب عن هذا الدليل أن الأفعال من حيث الحسن والقبيح على نحوين:
الأول: مايكون حسنًا أو قبيحًا في مجتمع الأزمنة والأمكنة، ولكل شخص وفي كل حال، نظير الإعتقاد قلبًا بالمعروف الإلهية الحقة لأنه حسن وعدل في العالم العبودية وموافق للبراهين العقلية التي لا تكون قابلة للتخصيص والاستثناء، لأن قاعدة نشوء المعلول عن العلة واحتياج الممكن المسوق بالعدم إلى الواجب الموجد له، لاتختص بشخص دون شخص وزمان دون زمان آخر وحالة دون آخرى، وحينذاك يحكم العقل بوجوب عقد القلب بالواجب الخالق للممكنات ويحكم بقبح الجحد به تعالى وتقدس.
الثاني: مايكون بحسب طبعه الأول حسنًا أو قبيحًا ولكن ربما يطرأ عليه عنوان ينقلب به عما كان عليه من الحسن أو القبح، ولذا قالوا بأن حسن الأفعال وقبحها كما يكون بالذات يكون أيضًا بالوجوه والاعتبارات، وقالوا بأن ضرب اليتيم من هذا القسم، إذ ضربه بما هو ضرب إيذاء وظلم، فهو قبيح لا محالة ولكن ضربه للتأديب حسن، ونحن إذ نقبل ذلك نقول بان السر في انقلاب الحكم في نظير المثال المذكور إنما هو لعروض عنوان حسن على الفعل يكون أولى مطابقة لعنوان العدل من أصل الفعل فالإنقلاب في الحقيقة موضوعي وليس بحكمي فقط، وتوضيح ذلك أن العدل هو الاستواء حسن وله عنوان عام ذو مصاديق غير محصورة بمقدار الموجودات، فالعدل للإنطباق على نظام الكوني من الذروة، وكذا ما يقابله من الظلم وهو التجاوز عن الإستواء وله مصاديق عديدة، فالعدل في نظام الشمس إشراقها، والظلم وهو التعدي عن الاستواء تكويرها، والعدل في المجموعة العلوية إلصاق أجزاء كل موجود علوي فيها بعضها ببعض مع حفظ مقدار نور كل واحد منها ومقدار بعد كل عن الآخر، فانفطارها وتفتت أجزائها كالعهن المنفوش إنما هو خلاف عدلها الكوني ونظامها الوجودي، وهذا المقياس موجود في كل شيء ماديًا كان أو معنويًا، فالعدل في المزاج إنها هو استواء نسبة كل عضو من عناصر الموجودة في البدن مع الآخر وفقًا للخلقة، وغن شئت عبرت بتعبير القدماء من التعادل بين الأخلاط، الأربعة، بحيث لوزاد خط ونقص أخر لانحرف المزاج وزال العدل وأفضى ذلك إلى الموت، وصح للسعدي أن يقول:
?ون يكى ?هار شد(8)غالب جان شيرين بر آيد از قالب
والعدل في الأخلاق إنما هو بتنظيم الغرائز البهيمية والسبعية والإنسانية،والظلم فيها انحرافها عن الإستواء بالإنخفاض أو الإرتفاع غير الموزونين، فالعدل في القوة السبعية شجاعة، وانحرافها النزولي جبن، وانحرافها الصعودي تهور، وحينذاك تقول بان ضرب اليتيم انحراف عن الحقوق البشرية والحدود النظامية، لأنه تصرف فيما ليس للمتصرف التصرف فيه، لأن الضارب شخص واليتيم شخص آخر وليس اليتيم عبدًا مقهورًا للضارب، فضربه ظلم والظلم قبيح، ولكن العلم بالمعارف الحقة والنظام العملي والتخلق بالأخلاق الفاضلة والتجنب عن الرذائل السيئة عدل، والعدل حسن، وغذا تعارض العدل الأول مع الأخير، فلا ريب في كون المدار على الأخير دون الأول، فضرب اليتيم تأديبًا له ايجاد للعدل في مزاجه الروحي. وهذا العدل الروحي الإنساني أعلى رتبة وأرفع درجة من العدل البدني، فإيراد الضرب على البدن وإن كان جورًا، إلا أنه لما كان سببًا لإيجاد الفضائل في الروح- وهو العدل المعنوي-كان حسنًا، فالوجوه والاعتبارات المغيرة للحسن أو القبيح إلى ضديهما كلها من هذا القبيل فتفطن، وبعد ذلك نقول بأن الحسن ما دام حسنًا يكون مأمورًا به، وكذلك القبيح ما دام قبيحًا يكون منهيًا عنه، والأحكام المنسوخة حيث كانت متعلقاتها ذات مصالح زمنية صارت مأمورًا بها في ذلك الظروف والأزمنة ونسخت بعد ذلك بالمعنى الصحيح للنسخ الذي سنوافيك به.
ولا سبيل للإشكال في نسخها من ناحية المصلحة والملاك والكمال التوضيح دقق النظر في أمر إبراهيم(ع) بذبح ولده ثم نسخ هذا الأمر بعد حضور وقت العمل والشروع في مقدماته القريبة المسببة للقتل، نعم ربما يقال بأن الأوامر الإختبارية التى تنسخ ليست من مقول النسخ المصطلح المبحوث عنه، لأن الحكم المنسوخ لا بد وأن يكون متعلقًا بالمتعلق به حقيقة: لاعلى نحو الوصف بحال متعلق الموصوف، والأمر سهل بعد عدم التفاوت إلا من ناحية أن في الأوامر الإختيارية الأمر الواقعي ومتعلقه ظاهري، وفي النسخ المصطلح متعلق الحكم واقعي والإستمرار ظاهري.
وتوضيح ذلك أن في كليهما يرد اشكال الملاك، فيقال في مورد الأمر بالذبح مثلاً ملاك الذبح موجود بدليل الأمر به، فلم لم يتحقق الذبح واكتفى الآمر بمقدماته مصرحًا بأنك قد صدقت الرؤيا، وإن لم يكن فيه ملاك، فلم أمر إبراهيم به كما سمعت هذا الإشكال في مورد النسخ المصطلح؟، والجواب عن الإشكال في الأول أن الغرض هو الإختبار وقد حصل، وعن الإشكال في الثاني أن الملاك قابل للتغيير فربما يتغير، وملخص الكلام أنه يمكن ان تكون في الشيء مصلحة قاهرة بالنسبة إلى المصلحة الموجودة فيه سابقًا، كما إذا اقتضت مصلحة التسهيل رفع اليد عن جملة من الأحكام الشاقة، ويشهد على ذلك ما نطلبه من الله سبحانه بقولنا حاكيًا لكلام الله: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾(9).
2- إن النسخ يستلزم البدء وهو ملازم للجهل، فنسخ الأحكام يستلزم جهل الله بالعواقب، وهذا محال لأن التشريع ينشأ من علمه بالأصلح، وعلمه تعالى بالأشياء تكوينًا وتشريعًا عين ذاته القديمة، والجهل يستلزم النقص أولاً والواجب منزه عنه والانقلاب ثانيًا والواجب ليس محلاً للتغيير، فالأحكام المطلقة زمانًا- غير المحدودة بغاية وغير المؤقتة بوقت- وجب استمرارها في عمود الزمان واستحال طروء الزوال_ النسخ_ عليها.
والجواب أن الإطلاق الزماني ليس من المداليل الألتزامية للجمل الإنشائية الآمرة بشئ أو الناهية عنه، وإنماء هو نتيجة الإطلاق في مقام البيان- الخالي عن التقييد بزمان دون زمان-، وتوضيح ذلك أن للجمل المسوقة لبيان الأحكام إطلاقات ثلاثة بحسب طباعها الأولية، وأعني بالطباع الإرسال من النواحي الآتية وعدم التقيد بإحدى القيود الثلاثة:
الأول: الإطلاق من جهة الافراد.
الثاني: الإطلاق من جهة الأحوال
الثالث: الإطلاق من جهة الزمان.
ونحن إذ نأخذ بالإطلاق الإفرادي للأشخاص في مثل: أكرم العلماء، وللأشياء في ذلك: اغرس شجرة، ولا نفرق بين النحوي والصرفي في الأول، ولا بين العنب والرطب في الثاني، فكذلك لنا أن نأخذ بالإطلاق الزماني، ونقول إن وجوب الصدقة حال نجوى النبي(ص) مستمر بحسب الأزمنة، ولكن تلك الاطلاقات ليست مداليل إلتزامية للجمل المذكورة، كما أنها ليست مداليل مطابقية أو تضمنية لها بالضرورة، ولما كان للمتكلم أن يخصص العام ويقيد المطلق فكذلك له أن ينسخ، الأنصاري بأن النسخ تخصيص أزماني، ولكننا نقول أن دليل النسخ حاكم على دليل المنسوخ حكومة مقامية.
وتلخيص الكلام أن النسخ إذا كان بحسب نفس الأمر وفي الواقع يكون مستلزمًا لجهل الباري خل وعلا ولكنه ليس كذلك، بل هو إزالة للحكم في مرحلة الظاهر على نحو الحكومة المقامية كما مرَّ، وه أنه في مورد النسخ لما كان المقام مقام الإطلاق من ناحية بيان زمان الحكم أخذ العرف بهذا الإطلاق وحكم بالاستمرار وأسنده إلى الشارع تطبيقًا للظاهر على الواقع واستدلالاً بعالم الإثبات على عالم الثبوت واستمر حكم العرف باستمرار حكم الشارع إلى زمان ورود دليل النسخ وظهر للعرف ما كان مختفيًا عليه هو أن الحكم كان محدودًا من جهة الزمان إلى الحد الخاص الذي بيّنه دليل النسخ، فالنسخ والبداء متوافقات في أنهما ظهور بعد الخفاء، وإن شئت قلت إبداء من الله للناس ما أخفى عليهم أو كان مختفيًا عنهم، وليسا بحدوث علم له تعالى شأنه بعد عدم علمه كما هو واضح، وأما المصحح للتعبير بالنسخ فلأنه إزالة للحكم في مرحلة الظاهر، فلا يرد الإشكال بأن دليل النسخ على ما ذكرتم إنما جاء لبيان انتهاء أمد الحكم، فالحكم لم يكن في نفس الأمر دائمًا، بل كان مؤقتًا إذ يقال في الحرب بأن النسخ ظاهري صوري، نعم لو ذهب أحد إلى أن النسخ واقعي ورد عليه إشكال حدوث العلم للباري تعالى بعد جهله المستلزم لمحذور محدودية علم الله ولمحذور وقوع التغير في ذات الله وكلاهما مناف لوجوب وجوده، وقد يقرر الدليل العقلي على امتناع النسخ بتقريب يجمع بين الدليلين السابقين فيقال ان نسخ الحكم اما أن يكون لحكمة ظهرت لله تعالى بعد أن لم تكن ظاهرة له، و اما مع عدم الحكمة فإن كان الأول لزم البداء في علم الله تعالى، ومعنى البداء نشوءِ رأي لم يكن، فلا بد حينئذ من أن يكون الله جاهلاً بالحكم والمصالح وتعالى الله عن ذلك لأن علمه بالمصالح الفردية والعائلية والنوعية- النظامية- عبارة عن العلم بالأصلح، والعلم بالأصلح-فرديًا أو عائليًا أو نظاميًا- ذاتي له، ولا يكون بين ذاته المقدسة وبين علمه وسائر صفاته اثنينية وميز وتفاوت، إذ الصفات الذاتية لله تعالى لا تنفك عنه ولا تتعدد ولا تتكثر، فلا تكون صفاته زائدة على ذاته فيستحيل حدوث التغير في الصفات كما في الذات لأن الصفات عين الذات.
وان كان الثاني لزم اللغو والعبث في التشريع، لأن التشريع كان على نحو الدوام أولاً ثم نسخ ثانيًا وهذا عبث، والحكم تعالى منزه عن العبث إذ أن أفعاله طراً معللة بالأغراض، وإن كانت واصلة للبشر ونافعة لهم ولم تكن عائدة إليه تعالى وهو الغني بالذات، ولذا قلنا في محله بأن الله تعالى فاعل بالعناية والرضا، بل لابتهاج الذات بالذات أبدع وشرع معًا.
والجواب أن الأحكام ناشئة عن الحكم والمصالح إلا أنها ليست أبدية مطلقًا، بل بعضها مؤقتة وبعضها تجديدية وبعضها دائمية حيث تعترف بوجدانك أن شرب الخمر قبيح بحسب الطبع وحسن لحفظ الحياة، فالمراد من ظهور الحكمة بعد الخفاء إن كان عبارة عن علمه تعالى بذلك فهو ممنوع ومستحيل، وإن كان انكشاف محدودية المصلحة السابقة أو تجددها فيها سيأتي من الزمان فهو حق ولا محيص عن الإعتراف به، فتلخص أن النسخ عبارة عن بيان انتهاء أمد الحكم، إلا أن صياغة الحكم على نحو العموم وإلقائه لا مؤقتًا كان لمصلحة مختفية علينا، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾(10)الآية...إذ أن المصلحة كانت في إبداء الحكم مطلقًا من جهة الأفراد ونسخه الله تعالى بعد نجوى علي(ع) للنبي(ص) وتصدقه، وكانت تلك المصلحة هي توجيه الآراء ولفت الأنظار إلى مقام علي(ع)، وأن من اختص بهذه الميزة والفضيلة يكون أولى الناس بالخلافة وأبرزهم في المنقبة وأقربهم إلى النبي(ص)، ونحن لا نقول بأن المصلحة متمحضة في إعلامنا بالمنافقين التاركين للعمل بهذه الآية حتى يشكل علينا باستلزام ذلك نفاق كبار الصحابة بل يكفي في مصلحة النسخ إظهار أولوية على(ع) بالمناقب والمكرمات من الصحابة.
وقد يستشكل في النسخ بأن دليل النسخ إن كان ناظرًا إلى أن الحكم كان من الأول محدودًا بغاية ومؤقتًا بوقت، لزم ألا يكون هناك نسخ في الواقع لأن النسخ هو الإزالة، ولا إزالة في الحكم المحدود بغاية حين تحقق الغاية، وان كان ناظرًا إلى أن الحكم المؤيد في الواقع أزيل من لوح التشريع لزم التناقض، والجواب اختيار الشق الأول، وأن النسخ قطع وإزالة في مرحلة الظاهر لا في نفس الأمر والواقع وأن المصلحة كانت في إبراز العموم أفرادًا أو أزمانًا فلا يكون في النسخ محذور كما لا يكون في التخصيص محذور.
تبصرة:
ذهب أبو مسلم بن بحر الأصفهاني إلى عدم وقوع النسخ في الأحكام وتجشم في موارد النسخ أُموراً تخرج تلك الموارد عن كونها نسخاً إلا أن إنكار النسخ مكابرة محضة ومحاولة لإخفاء ما هو بديهي، نعم قد استدل على عدم وقوعه في الخارج بقولة تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾(11)، بتوهم أن النسخ إبطال للقرآن.
والجواب أن بيان الغاية ممن بيده البيان ليس إبطالاً، كيف والقرآن ينص على جواز النسخ في قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾(12) فلا منع عقلاً من النسخ ولا دليل سمعاً على عدم وقوعه.
المصدر:
كتاب آراء حول القرآن، لسماحة آية الله السيد علي الفاني الأصفهاني.
1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- سورة الشورى، الآية: 13.
3- سورة البينة، الآية: 5.
4- سورة البقرة، الآية135.
5- سورة البقرة، الآية285.
6- سورة البقرة، الآية286.
7- سورة الصف، الآية:6.
8- الأخلاط الأربعة: الصفراء- السوداء- البلغم- الدم.
9- سورة البقرة: الآية 286.
10- سورة المجادلة، الآية: 12.
11- سورة فصلت، الآية: 42.
12- سورة البقرة، الآية: 106.