القرآن وأسرار الخليقة
أخبر القرآن الكريم في غير واحدة من آياته عما يتعلق بسنن الكون، ونواميس الطبيعة، والأفلاك، وغيرها مما لا سبيل إلى العلم به في بدء الإسلام إلا من ناحية الوحي الإلهي.
وبعض هذه القوانين وإن علم بها اليونانيون في تلك العصور أو غيرهم ممن لهم سابق معرفة بالعلوم، إلا أن الجزيرة العربية كانت بعيدة عن العلم بذلك.
وإن فريقا مما أخبر به القرآن لم يتضح إلا بعد توفر العلوم، وكثرة الاكتشافات.
وهذه الإنباء في القرآن كثيرة، نتعرض لها عند تفسيرنا الآيات التي تشير إليها إن شاء الله تعالى.
وقد أخذ القرآن بالحزم في إخباره عن هذه الأمور، فصرح ببعضها حيث يحسن التصريح، وأشار إلى بعضها حيث تحمد الإشارة، لان بعض هذه الأشياء مما يستعصي على عقول أهل ذلك العصر، فكان من الرشد أن يشير إليها إشارة تتضح لأهل العصور المقبلة حين يتقدم العلم، وتكثر الاكتشافات.
ومن هذه الإسرار التي كشف عنها الوحي السماوي، وتنبه إليها المتأخرون ما في قوله تعالى: ﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾ 15: 19 ".
فقد دلت هذه الآية الكريمة على أن كل ما ينبت في الأرض له وزن خاص، وقد ثبت أخيرا أن كل نوع من أنواع النبات مركب من أجزاء خاصة على وزن مخصوص، بحيث لو زيد في بعض أجزائه أو نقص لكان ذلك مركبا آخر.
وان نسبة بعض الأجزاء إلى بعض من الدقة بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقا بأدق الموازين المعروفة للبشر.
ومن الأسرار الغريبة - التي أشار إليها الوحي الإلهي - حاجة إنتاج قسم من الأشجار والنبات إلى لقاح الرياح.
فقال سبحانه: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ 15: 22 ".
فإن المفسرين الأقدمين وإن حملوا اللقاح في الآية الكريمة على معنى الحمل، باعتبار أنه أحد معانيه، وفسروا الآية المباركة بحمل الرياح للسحاب، أو المطر الذي يحمله السحاب، ولكن التنبيه على هذا المعنى ليس فيه كبير اهتمام، ولا سيما بعد ملاحظة أن الرياح لا تحمل السحاب، وإنما تدفعه من مكان إلى مكان آخر.
والنظرة الصحيحة في معنى الآية - بعد ملاحظة ما اكتشفه علماء النبات - تفيدنا سرا دقيقا لم تدركه أفكار السابقين، وهو الإشارة إلى حاجة إنتاج الشجر والنبات إلى اللقاح.
وأن اللقاح قد يكون بسبب الرياح، وهذا كما في المشمش والصنوبر والرمان والبرتقال والقطن، ونباتات الحبوب وغيرها، فإذا نضجت حبوب الطلع انفتحت الأكياس، وانتثرت خارجها محمولة على أجنحة الرياح فتسقط على مياسم الأزهار الأخرى عفوا.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن سنة الزواج لا تختص بالحيوان، بل تعم النبات بجميع أقسامه بقوله: ﴿وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾13: 3.
﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ 36: 36 . ومن الأسرار التي كشف عنها القرآن هي حركة الأرض.
فقد قال عز من قائل: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾20: 53.
تأمل كيف تشير الآية إلى حركة الأرض إشارة جميلة لم تتضح إلا بعد قرون، وكيف تستعير للأرض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع، يهتز بنعومة لينام فيه مستريحا هادئا ؟ وكذلك الأرض مهد للبشر وملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية والانتقالية، وكما أن تحرك المهد لغاية تربية الطفل واستراحته، فكذلك الأرض، فإن حركتها اليومية والسنوية لغاية تربية الإنسان بل وجميع ما عليها من الحيوان والجماد والنبات.
تشير الآية المباركة إلى حركة الأرض إشارة جميلة، ولم تصرح بها لأنها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها، حتى أنه كان يعد من الضروريات التي لا تقبل التشكيك.
ومن الأسرار التي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرنا: وجود قارة أخرى.
فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ 55: 17 .
وهذه الآية الكريمة قد شغلت أذهان المفسرين قرونا عديدة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتى.
فقال بعضهم: المراد مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرباهما، وحمله بعضهم على مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما.
ولكن الظاهر أن المراد بها الإشارة إلى وجود قارة أخرى تكون على السطح الآخر للأرض يلازم شروق الشمس عليها غروبها عنا.
وذلك بدليل قوله تعالى: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾43: 38 .(1) (2)
فإن الظاهر من هذه الآية أن البعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة فلا يمكن حملها على مشرقي الشمس والقمر ولا على مشرقي الصيف والشتاء، لان المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة فلا بد من أن يراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب.
ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقا لجزء آخر من الكرة الأرضية ليصح هذا التعبير، فالآية تدل على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلا بعد مئات من السنين من نزول القرآن.
فالآيات التي ذكرت المشرق والمغرب بلفظ المفرد يراد منها النوع كقوله تعالى: " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله 2: والآيات التي ذكرت ذلك بلفظ التثنية يراد منها الإشارة إلى القارة الموجودة على السطح الأخر من الأرض.
والآيات التي ذكرت ذلك بلفط الجمع يراد منها المشارق والمغارب باعتبار أجزاء الكرة الأرضية كما نشير إليه.
ومن الإسرار التي أشار إليها القرآن الكريم كروية الأرض فقال تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾ 7: 137.
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾ 37: 5.
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾ 70: 40 .
ففي هذه الآيات الكريمة دلالة على تعدد مطالع الشمس ومغاربها، وفيها إشارة إلى كروية الأرض، فإن طلوع الشمس على أي جزء من أجزاء الكرة الأرضية يلازم غروبها عن جزء آخر، فيكون تعدد المشارق والمغارب واضحا لا تكلف فيه ولا تعسف.
وقد حمل القرطبي وغيره المشارق والمغارب على مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيام السنة، لكنه تكلف لا ينبغي أن يصار إليه، لان الشمس لم تكن لها مطالع معينة ليقع الحلف بها، بل تختلف تلك باختلاف الأراضي.
فلا بد من أن يراد بها المشارق والمغارب التي تتجدد شيئا فشيئا باعتبار كروية الأرض وحركتها.
وفي أخبار أئمة الهدى من أهل البيت - عليهم السلام - وأدعيتهم وخطبهم ما يدل على كروية الأرض.
ومن ذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: " صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر، وكنت أنا أصلي المغرب إذا غربت الشمس، وأصلي الفجر إذا استبان لي الفجر.
فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ؟ فإن الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا، وهي طالعة على قوم آخرين بعد.
فقلت: إنما علينا أن نصلي وإذا وجبت الشمس عنا وإذا طلع الفجر عندنا، وعلى أولئك أن يصلوا إذا غربت الشمس عنهم ".
يستدل الرجل على مراده باختلاف المشرق والمغرب الناشئ عن استدارة الأرض، ويقره الإمام - عليه السلام - على ذلك ولكن ينبهه على وظيفته الدينية.(3)
ومثله قول الإمام - عليه السلام - في خبر آخر: " إنما عليك مشرقك ومغربك ".
ومن ذلك ما ورد عن الإمام زين العابدين - عليه السلام - في دعائه عند الصباح والمساء: " وجعل لكل واحد منهما حدا محدودا، وأمدا ممدودا، يولج كل واحد منهما في صاحبه، ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد ".
أراد صلوات الله عليه بهذا البيان البديع التعريف بما لم تدركه العقول في تلك العصور وهو كروية الأرض، وحيث أن هذا المعنى كان بعيدا عن إفهام الناس لانصراف العقول عن إدراك ذلك، تلطف - وهو الإمام العالم بأساليب البيان - بالإشارة إلى ذلك على وجه بليغ، فإنه - عليه السلام - لو كان بصدد بيان ما يشاهده عامة الناس من أن الليل ينقص تارة فتضاف من ساعاته إلى النهار، وينقص النهار تارة أخرى فتضاف من ساعاته إلى الليل، لاقتصر على الجملة الأولى: " يولج كل واحد منهما في صاحبه " ولما احتاج إلى ذكر الجملة الثانية: " ويولج صاحبه فيه " إذن فذكر الجملة الثانية إنما هو للدلالة على أن إيلاج كل من الليل والنهار في صاحبه يكون في حال إيلاج صاحبه فيه، لان ظاهر الكلام أن الجملة الثانية حالية، ففي هذا دلالة على كروية الأرض، وان إيلاج الليل في النهار - مثلا - عندنا يلازم إيلاج النهار في الليل عند قوم آخرين.
ولو لم تكن مهمة الإمام - عليه السلام - الإشارة إلى هذه النكتة العظيمة لم تكن لهذه الجملة الأخيرة فائدة، ولكانت تكرارا معنويا للجملة الأولى.
ولقد اقتصرنا في بيان إعجاز القرآن على هذه النواحي، وفي ذلك كفاية ودلالة على أن القرآن وحي إلهي، وخارج عن طوق البشر.(4)
وكفى بالقرآن دليلا على كونه وحيا إلهيا أنه المدرسة الوحيدة التي تخرج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي يفتخر بفهم كلماته كل عالم نحرير وينهل من بحار علمه كل محقق متبحر.
وهذه خطبه في نهج البلاغة، فإنه حينما يوجه كلامه فيها إلى موضوع لا يدع فيه مقالا لقائل، حتى ليخال من لا معرفة له بسيرته أنه قد قضى عمره في تحقيق ذلك الموضوع والبحث عنه، فمما لا شك فيه أن هذه المعارف والعلوم متصلة بالوحي، ومقتبسة من أنواره، لان من يعرف تاريخ جزيرة العرب - ولا سيما الحجاز - لا يخطر بباله أن تكون هذه العلوم قد أخذت عن غير منبع الوحي.
ولنعم ما قيل في وصف نهج البلاغة: " أنه دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين ".
بل أعود فأقول: إن تصديق علي عليه السلام - وهو على ما عليه من البراعة في البلاغة، والمعارف وسائر العلوم - لإعجاز القرآن هو بنفسه دليل على أن القرآن وحي إلهي، فإن تصديقه بذلك لا يجوز أن يكون ناشئا عن الجهل والاغترار، كيف وهو رب الفصاحة والبلاغة، واليه تنتهي جميع العلوم الإسلامية وهو المثل الأعلى في المعارف، وقد اعترف بنبوغه وفضله المؤالف والمخالف.
وكذلك لا يجوز أن يكون تصديقه هذا تصديقا صوريا ناشئا عن طلب منفعة دنيوية من جاه أو مال، كيف وهو منار الزهد والتقوى، وقد أعرض عن الدنيا وزخارفها، ورفض زعامة المسلمين حين اشترط عليه أن يسير بسيرة الشيخين، وهو الذي لم يصانع معاوية بإبقائه على ولايته أياما قليلة، مع علمه بعاقبة الأمر إذا عزله عن الولاية.
وإذن فلا بد من أن يكون تصديقه بإعجاز القرآن تصديقا حقيقيا، مطابقا للواقع، ناشئا عن الإيمان الصادق. وهذا هو الصحيح، والواقع المطلوب.
المصدر:
البيان في تفسير القرآن، لزعيم الحوزة العلمية آيه الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي.
1- واجترأ الحكيم " غاليله " بعد الألف الهجري فأثبت الحركتين " الوضعية والانتقالية " للأرض فأهانوه، واضطهدوه حتى قارب الهلكة، ثم سجن طويلا مع جلالته، وحقوقه العلمية فصار حكماء الإفرنج يكتمون كشفياتهم الأنيقة المخالفة للخرافات العتيقة خوفا من الكنيسة الرومية.
2- الهيئة والإسلام ص 63 طبعة بغداد.
3- الوسائل ج 1 ص 237 باب 116 ان أول وقت المغرب غروب الشمس.
4- الصحيفة السجادية الكاملة.