تفسير قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
بداية وتمهيد:
قد عرفنا: أن البسملة هي أعظم آية في القرآن الكريم، وعرفنا ما نقل عن علي أمير المؤمنين عليه السلام حول تفسيرها، وما يمكن أن يقدمه للأمة من شرح قد تنامى واتسع حتى يمكن كتابة الأسفار التي تنوء بحملها العشرات من وسائل الحمل التي كانت متوفرة آنئذٍ.
وقد تحدث المفسرون عن أمور كثيرة ومتنوعة حول الآية الكريمة التي نرددها عشرات المرات يومياً، وفقاً لما ورد عن الشرع الشريف في ذلك، وأكثر ما ذكروه يدخل في السياق اللغوي والتركيبي وطبيعته ومناشئه وغير ذلك.
ونحن هنا نحيل القارئ على ما كتبوه، إن أحب الإطلاع عليه، أما نحن فنتجه إلى منحى آخر فيما نريد أن نثيره من دلالات وإيماءات هذه الآية المباركة.
البدء باسم الله:
لقد ورد في الحديث الشريف، عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: كل أمر ذي بال لم يذكر فيه "اسم الله" أو "بسم الله" فهو أبتر.وفي حديث آخر: كل امر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر.وعن أبي هريرة عنه(ص): كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر.أو قال: أقطع.
والسؤال هنا هو: لماذا يطلب منا أن ننظر إلى البسملة، أو فقل: أن نتعامل مع بسم الله الرحمن الرحيم، على أنها جزء من كل أمر ذي بال (أي شأن)؟.ثم ما هي المعاني التي يريد الله أن يلقننا إياها من خلال التركيز على البسملة، ويطلب منا أن نعيشها الى درجة أن تصبح جزءاً من حياتنا وممارساتنا؟
إن مما لا شك فيه أن ثمة معانٍ جميلة ومميزة ولطائف ومعارف في بسم الله الرحمن الرحيم، يريد تعالى منا أن ندركها بعمق، وأن نتفاعل معها بوعي ومسؤولية، فما هي تلك المعاني؟، وهل يمكننا نيلها أو نيل بعضها ولو بدرجة متواضعة؟.
إننا قبل كل شئ نشير الى ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله من أن الناس ربما يبدءون في عمل، أو يحققون إنجازاً فيقرنونه باسم عزيز على قلوبهم، أو كبير من كبرائهم، ليكتسب عملهم بذلك شرفاً، أو بركة، أو ليخلدوا اسم ذلك العزيز، أو الكبير ويبقى ببقاء ذلك العمل.ومن هنا نجدهم يسمون انساناً أو مؤسسة، أو غير ذلك بإسم من يحبونه، أو يعظمونه ليبقى الاسم ببقاء المسمى الجديد.لأن بقاء المسمى - والحالة هذه - نوع بقاء للاسم ثم لصاحب الإسم الحقيقي، ومن هذا القبيل من يسمي ولده باسم والده تكريماً لذلك الوالد.
ونقول:
إننا لا ننكر: أن الأمر ينتهي إلى التشريف، والتكريم والبركة.ولكن الأمر بالنسبة لإعتبار البسملة جزءاً من كل أمر لا يقتصر على هذه الاعتبارات التي يتعامل معها الناس بالطريقة العامية والسطحية، بل هو يتجاوزه ليكون على مستوى الطريقة الإلهية، التي تمثل العمق والأصالة والدقة.
وذلك لأن كلاّ منا يريد البركة ويتطلبها.وهي تعني الزيادة والنمو والتكامل المعنوي والمادي.ولكننا حين نجد أنهم عليهم السلام قد طلبوا منا أن لا ندع البسملة في أي شيء صغيراً كان أو كبيراً، وبدونها سيكون مبتوراً وناقصاً.فإن ذلك يعني أن الأمر ليس مجد بركة وشرف وتكريم، بل هو أكبر من ذلك وأهم.ويلفت نظرنا هنا قوله (ص): "لا يبدأ فيه" ولم يقل: ليس معه، أو: لم يسبقه.
النقص في البداية وفي النهاية:
ولا بد أيضاً من التوقف والتأمل في هذا التقابل الذي يقرره هذا الحديث؛ حيث فرض أن البدء من جهة هو نفسه الذي يوجب النقص أو الكمال في الجهة المقابلة.
مع أنك إذا قلت: إذا لم تفعل الأمر الفلاني، فان عملك سيكون ناقصاً، فان نقصه إنما يكون من جهة نفس عدم فعلك للأمر الفلاني المشار إليه آنفاً.ولكن الأمر هنا ليس كذلك، فإن النقص للبسملة إنما جاء في جهة أول الفعل، والبتر والنقص قد جاء في آخره؛ لأن المبتور هو مقطوع الآخر أو الذنب، والأقطع هو مبتور اليد.
ونقول:
إن نقصان آخره إنما هو من حيث إنقطاعه عن البقاء والدوام، فهو أبتر لانقطاع آخره.ولعلنا نستطيع أن نفهم مبرر هذا الأمر في ذكر مثال تقريبي هو: إن الله تعالى يقول: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ (الرحمن/26) ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ وقال تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾ (البقرة/115).
فقد يقول قائل: ان المراد بوجه الله هو الله تعالى نفسه، فكأنه قال: ويبقى الله ذو الجلال والإكرام.وكأنه قال: أينما تولوا فثم الله تعالى نفسه.ولكن هذا التفسير يبقى غير كاف ولا واف بالمقصود.وذلك للأمور التالية:
1.إنه لا مجال لأن يضاف الشيء إلى نفسه.فالإضافة والنسبة دليل المغايرة بين المضاف والمنسوب وهو "وجه" وبين المنسوب والمضاف إليه، وهو "الله".
2.هذا، بالإضافة إلى ما ورد من أن أهل البيت عليهم السلام هم وجه الله، فهل يعني ذلك أنهم عليهم السلام هم الذات الإلهية نفسها؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
3.وإذا كان كل شيء هالك إلا نفس الذات الإلهية، فعلى الإسلام، وكل أعمال الخير والبر والصلاح السلام، لأنها كلها أيضاً أشياء، فهل هي هالكة أيضاً؟
4.قال تعالى: ﴿﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ﴾ (النحل/96) ولا معنى لفناء كل شيء مع بقاء الأشياء التي عند الله أيضاً.
والتفسير الصحيح لهذه الآية، ولآيتي سورة الرحمان والبقرة هو أن كل شيء من حيث الوجود المادي يفنى، ولكنه من حيث الوجود المعنوي باق، إذا كانت وجهته إلى الله سبحانه، لأن نسبته إليه، وكونه باتجاهه تعالى تكسبه حالة من نوع ما تجعله يبقى ويستمر بسببها، ويشهد لذلك آيات وأحاديث كثيرة.فلنقرأ قوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ (الفرقان/23).إذ لو كان لوجه الله لما جعله كذلك.وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (النور/39).
إذن، فكل شيء وجهته إلى الله سبحانه يكون فيه جهة بقاء، ودوام، وخلود.والذي لا يكون كذلك فهو هباء منثور، كسراب بقيعة، أبتر.
وكمثال على ما نقول: إذا تبرع أحدهم بمبلغ من المال لغير وجه الله.فمن جهة الحدوث لا شك في أن ذلك قد حدث.ولكن من جهة البقاء فليس ثمة ما يوجب بقاءه؛ لأنه يفقد عنصر البقاء.وذلك مثل العدالة التي هي شرط في إمام الجماعة.ولكن مجرد حدوثها فيه لا يكفي بل لابد من بقاء تلك العدالة واستمرارها، بحيث لو فسق في آخر جزء من الصلاة، فان الصلاة تبطل بجميع أجزائها.
الباء للاستعانة أم للملابسة:
وعن سؤال: هل الباء للمصاحبة؟ أم للاستعانة، أم للتعدية، أم لمجرد الملابسة؟ أم لغير ذلك؟ نجيب: أن بعض المفسرين رجحوا أنها للاستعانة، وذلك لأن الإنسان مفتقر بذاته، محتاج إلى الغني بذاته.ونحن نرجح أنها للملابسة، وذلك لأننا إذا رجعنا إلى حديث: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر، فإننا ندرك: أن الباء ليست للمصاحبة، أو الاستعانة، أو لغير ذلك وإنما هي لمجرد الملابسة، لأن قوله: لا يبدأ فيه، إنما يعني أن البسملة جزء من الأمر الذي نعمله، وإلا لكان اللازم أن يقال: كل أمر ذي بال لا يستعان فيه أو لا تصاحبه.وجزئية البسملة هذه لا تتلاءم إلا مع كون الباء لمجرد الملابسة.
لماذا التركيز على الاسم؟
ومن الملاحظ: أن الحديث هنا قد جاء عن الاسم.وأيضاً: ان الآيات القرآنية، تهتم بالاسم وتسلط الضوء على الأسماء، باستثناء البعض من تلك الآيات التي تعدت ذلك إلى الحديث عن الذات الإلهية المقدسة.
فاقرأ مثلاً قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق/1) ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ (العلق/2) و﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ (الأعراف/180).
فلماذا هذا التركيز والاهتمام بالاسم والأسماء؟ ونجيب بسؤال: هل نحن قادرون - بالنسبة للذات الإلهية - على استكناه حقيقة المسمى وتصوره؟ بل هل نستطيع: أن نتصور كنه أسمائه تعالى، فضلاً عن المسمى؟
الجواب: طبعاً، لا..إن غاية ما نتصوره هو الحد الأدنى والجانب الميسور والقريب من الاسم والقادر على أن يشير إلى المسمى إشارة خفيفة وبسيطة تكفي لأن تجعلنا نتضرع إلى الله به، لأنه يعطينا هذا المستوى من الإدراك.وهو سبحانه يقبل ذلك منا: لأننا غير قادرين على أكثر منه.وقد أمرنا بالابتعاد عن التعمق في التفكير في ذات الله سبحانه لأنه أمر فوق العقل.
وهكذا يتضح: أنه لا مبرر لما يقوله بعضهم من أن الاسم هو عين المسمى، وكذلك العكس..ويزيد من وضوح عدم صحة ذلك أنه لا ينسجم مع قوله تعالى: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ (الأعراف/180) حيث جعل الله الأسماء الحسنى وسيلة إلى ندائه تعالى - ان كان المعنى: نادوه بها - أو وسيلة للتوصل إلى نيل رضاه سبحانه، فلو كان الاسم عين المسمى لم يصح الأمر بدعاء الله بها، ولم يصح إضافتها ونسبتها إليه تعالى.
الأسماء الحسنى وسيلة الدعاء:
أما لماذا طلب منا سبحانه أن نجعل أسماءه الحسنى وسيلة دعائنا له؟ أو لماذا طلب منا أن ننادي الله بواسطة أسمائه الحسنى؟ كقولك خاطب زيداً باسمه، مقابل خطابه بلقبه مثلاً.
فلأن الاسم قد وضع لمعان حسية، أو قريبة من الحس.أريد منها هنا أن تعبر عن معان راقية وعالية، وبمقدار ما تترقى مدارك واستعدادات البشر وتتنامى، فان ذلك يؤثر على مستوى ودرجات فهمهم ونيلهم لتلك المعاني السامية، وتتفاوت درجات انكشافها لهم.فإذا سمعنا كلمة رؤوف، رحيم، كريم، قوي، الخ..مضافة إلى الذات الإلهية فإن كلاً منا يفهم درجة من تلك الرأفة والرحمة و..أما حقيقة رحمته تعالى وكرمه وقوته، فلا يمكن لنا إدراكها..
ومن جهة أخرى: إننا نتعامل مع هذه الأسماء من خلال مزيج من الإدراكات العقلية، والفطرية، مع الأحاسيس والمشاعر الفطرية والوجدانية.فهي ليست أسماء ذات طابع عقلي فلسفي محض..
فصفات العزيز الجبار، الرحيم الشافي، التواب، الحنان الخ..هي أسماء تحاكي الفطرة وتناجيها، وتناغيها، وتلامس الضمير والوجدان، وتثيره، وتشعر من خلالها بأنك قريب من الله، مع انك لا تستطيع أن تدرك نفس الذات.
ومن هنا نعرف السر في أنه تعالى قد أمرنا أن ندعوه بواسطة تلك الأسماء، وأن نجعلها وسيلتنا في الدعاء، لأننا حينما نتوجه إليه بالدعاء نكون بأمّس الحاجة إلى الإحساس والشعور به عز وجل..لا أن ندركه ونتصوره، فان ذلك ليس هو المهم.وتلك الأسماء توفر لنا ذلك الشعور العميق المفعم بالمعاني الحية، والمثيرة لكوامن الإحساس به وبوجوده، وبالحاجة إليه، وبالضعف أمامه، وغير ذلك من معان توحي لنا بها تلك الأسماء.انها تجعلنا نتفاعل معه، ونعيش في رحابه، وننطلق في آفاقه، وتترك آثارها على كل وجداننا، وعلى حياتنا العملية، على حركتنا وموقفنا وسلوكنا مع الناس، ومع أنفسنا، انها تحل مشاكلنا النفسية، والروحية، من حيث انها توحي إلينا بالمعاني التي نشعر أننا بحاجة لأن نتلمسها ونعيشها، ونشعر أنها أدواتنا التي توصلنا إلى ما نطمح إليه، وتحقق لنا ما نريد من دون حاجة إلى دليل عقلي أو فلسفي، أو منطقي برهاني.
ان كل ذلك لا يمكن أن تحققه لنا قناعات فكرية، أو معادلات رياضية، أو براهين فلسفية.فهذه الأسماء إذن توصلنا في موضع الخوف، والرجاء، والضعف والحاجة إلى الله سبحانه، وتصلنا به من أقرب طريق، وأصفاه.
الله:
أما بالنسبة للفظ الجلالة "الله" فهو اسم علم للذات الإلهية المقدسة.وقد أخطأ من قال: انه اسم لشيء عام كلي هو (واجب الوجود بالذات)، أو اسم (للمعبود بالحق) أو ما إلى ذلك.اذ لو كان كذلك لكان المراد من كلمة "لا اله إلا الله" لا واجب الوجود، إلا واجب الوجود، أو لا معبود بالحق إلا المعبود بالحق.
ويدل على ذلك أيضاً ما أشار إليه السيد العلامة الطباطبائي رحمه الله تعالى، من أن لفظ الجلالة يوصف بجميع الأسماء الحسنى، ولا يصح أن يقع هو وصفاً لأي واحدة منها.
الأصنام عند العرب:
وواضح: أن العرب كانوا يستعملون لفظ الجلالة في معناه.أما الأصنام فكانوا يعتقدون: أنها تقربهم إلى الله تعالى زلفى، وأن لها نوعاً من التأثير في حياتهم: في الشفاء، والرزق، وحل المشاكل، وما إلى ذلك.فيعطونها نوعاً من الشراكة مع الله سبحانه بهذا المعنى.وقد كانوا يعظمونها - في الأساس - لأنها تمثل بعض الصلحاء، أو غير ذلك.ثم تطور هذا التعظيم ليصبح تقديساً، ثم تطور ليصبح اعتقاداً ببعض التأثير، وتعاظم ونما حتى بلغ درجة الشرك الذي هو ظلم عظيم.فجاء الانحراف عن مقتضيات الفطرة تدريجياً، كما ترى.
الرحمن الرحيم:
إننا قبل أن نتكلم عن المقصود من هاتين الكلمتين، نشير إلى أمر هام يرتبط بمعناهما، بل هو يرتبط بسائر صفاته وأسمائه تعالى، وهو: أن الرحمة لدى بني الإنسان عبارة عن انفعال نفساني ذي طابع خاص، يحصل بسبب رؤية العجز أو الضعف أو النقص لدى إنسان أو أي مخلوق آخر ذي روح.فإذا رأينا طفلاً عمره شهر تحت أشعة الشمس، أو جريحاً، أو رجلاً تحت الأنقاض يحصل في داخلنا انفعال معيّن بطريقة عفوية وفطرية، يدفعنا إلى العمل ومد يد المساعدة لذلك العاجز والمنكوب.
لكن حينما نصف الذات الإلهية المقدّسة المن-زّهة بصفة الرحمانية والرحيمية، فإن نحو وكيفية تلبسها بصفة الرحمة، أو انتساب الرحمة إليها يختلف عن نحو وكيفية تلبسها بالإنسان وانتسابها إليه.ونحن نجهل تماماً حقيقة الرحمة التي ننسبها إليه تعالى، ولا نستطيع حتى أن نتصوّر حقيقتها، ونجهل أيضاً كيفيتها لديه تعالى.وقد ورد النهي عن المعصومين عليهم السلام عن التعمق في التفكير في حقيقة الذات الإلهية.
غاية الأمر أننا حينما نلاحظ كثرة صدور الرحمات، أو فقل: الأمور التي هي من لوازم الرحمة بزعمنا، أو بحسب تصورنا، منه تعالى؛ فإن ذلك يجعلنا ننسب إليه تعالى صفة: رحمان، أو رحيم.
تحديد معنى الرحمان الرحيم:
وأما بالنسبة لمعنى هذين اللفظين، فإننا نقول: قالوا: إن كلمة الرحمان، تفيد المبالغة، أي الذي يفيض الرحمة وتصدر عنه كثيراً، ومن كل جهة.ومعنى ذلك: أنها وصف لا يختص بالمؤمن، بل يعم الكافر أيضاً.
أنها – والحالة هذه – إنما تناسب الحياة الدنيا، إذ ليس للكافر منها في الآخرة من نصيب.وقالوا: إن كلمة "الرحيم" صفة مشبهة، أي أنها تدل على وجود الصفة في الموصوف بصورة ثابتة ودائمة، ومعنى ذلك: أن هذا إنما يناسب المؤمن دون الكافر، لأن المؤمن هو الذي يستحق الرحمة الدائمة.
إن هذا الوصف يمتد إلى الآخرة أيضاً، ليكون المؤمن مرحوماً فيها.وليناسب ذلك معنى الثبات والدوام فيها.ولأجل ما تقدم نجدهم يقولون: رحمان الدنيا ورحيم الآخرة.
ونحن بدورنا نقول: إن ما ذكروه مشكوك فيه، بل الله سبحانه رحمان في الدنيا والآخرة، ورحيم فيهما معاً أيضاً.وقد ورد في الحديث الشريف: "رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما".وقال تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾ (مريم/85) وقال سبحانه: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾ (الفرقان/26) واستعملت "الرحيم" للحديث عن رحمته تعالى في الدنيا، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ (النساء/29).
وهذا هو السر في التركيز على هاتين الصفتين في أعظم آية في القرآن الكريم، وذلك لأن كلمة رحمان تساوي كلمة غضبان أو شبعان أو نعسان أو يقظان.وهذه الصفات بهذه الصيغة ليست من صيغ المبالغة، وإنما هي تدل على وجود الصفة في موصوفها على نحو التمام والكمال، فكلمة "غضبان" مثلاً كما يقول أهل اللغة معناها الشخص الممتلئ غضباً أو "الذي يغضب سريعاً.وقيل: شديد الغضب".
فإذا كان المراد بالرحمن هو أنه عز وجل ممتلئ رحمة، فلازم ذلك أن تصدر عنه الرحمات بكثرة، فيرحم سبحانه المؤمن والكافر، والعالم والجاهل، والكبير والصغير، والغني والفقير، وما إلى ذلك.
فما قاله الطبرسي وغيره: "الرحمان الرحيم: اسمان وضعا للمبالغة، واشتقا من الرحمة وهي النعمة إلا أن فعلان أشد مبالغة من فعيل".
وقال ابن منظور عن كلمة رحمان: "معناه الكثرة".وقال: فعلان من أبنية ما يبالغ في وصفه.هذا القول فيه نوع من التوسع، فلعل الطبرسي وغيره من المفسرين وأهل اللغة، ذكروا لازم المعنى، فصوروه لنا على أنه هو المعنى نفسه، بنوع من التوسع أو التسامح.
أما بالنسبة لكلمة: "الرحيم" فيمكن أن تكون للمبالغة مثل عليم، بمعنى كثير العلم.وقد تكون صفة مشبهة لمجرد إفادة ثبوت الوصف من دون أي مبالغة أو تكثير، مثل مريض، وقديم وكبير وصغير.
ولكننا إذا رجعنا إلى الآيات القرآنية، فإننا نجد أنها في الأكثر قد وردت وإلى جانبها كلمات هي: غفور، تواب، رؤوف، ودود، بر عزيز.
وهذه الصيغ إما هي للمبالغة، كالأربعة الأول، وهي واقعة في عشرات الآيات، أو أنها صفة مشبهة كالكلمتين الأخيرتين، اللتين وردتا في موارد قليلة جداً، والصفة المشبهة تدل على نسبة الصفة للموصوف، وقيامها فيه فعلاً، من دون إشارة إلى معنى الحدوث..فاقتران كلمة الرحيم بصيغ المبالغة يشير إلى أنها صيغة مبالغة مثلها ككلمة: عليم..إذ المفروض وجود تجانس فيما بين الصفتين سوّغ للذوق أن يعقب إحداهما بالأخرى.إذ لو كانت إحداهما للمبالغة دون الأخرى، فإن مستوى الانسجام والتجانس سوف يضعف، وسيشعر القارئ بوجود نقلة غير طبيعية، بعيدة عن السهولة بصورة عامة.
كما أنها حين جعلت إلى جانب الصفة المشبهة، مثل كلمة عزيز، فإنها قد استعملت صفة مشبهة يقصد بها تمامية الصفة في موصوفها على سبيل الثبات والدوام، من دون إلماح إلى معنى الحدوث.فهي إلى جانب الصفة المشبهة تكون صفة مشبهة مثل كريم، وسقيم، وحكيم، وإلى جانب صيغة المبالغة تكون مثلها صيغة مبالغة تدل على الامتلاء بالرحمة، ويلزم من ذلك كثرة صدورها منه تعالى لمن يستحقها.أو لعلها هي بنفسها أيضاً من صيغ المبالغة أيضاً كما ذكره الطبرسي وغيره.
ولا نستبعد أنه تعالى قد جاء بكلمة "رحيم" التي هي صيغة مبالغة على شكل الصفة المشبهة ليفيد المعنيين معاً.أي ليفيد المبالغة وتمامية الصفة في موصوفها لأنها على شكل صيغ المبالغة، وليفيد الدوام والثبات لأنها على شكل الصفة المشبهة.
وقد اتضح مما تقدم: أن ما قالوه من أنه تعالى: رحمان في الدنيا رحيم في الآخرة، لأن الكافر لا يستحق ثبات ودوام الرحمة لتصل إلى الآخرة.فتكون كلمة رحيم خاصة بالمؤمن.وكلمة رحمن تشمل المؤمن والكافر.
هذا القول غير دقيق: بل هو استنبطوه من شؤون العقيدة، لا من الدلالات اللغوية لهاتين الكلمتين، فقيدوا المعنى اللغوي بالدليل العقائدي.
وإنما قلنا: إنه غير دقيق،لأن المعنى اللغوي على النحو الذي ذكرناه ليس ناظراً إلى تلبس الرحمة بهذا الشخص أو ذاك، بل هو ناظر إلى كيفية قيام الصفة بموصوفها.وأن كلمة الرحمان لا تدل على كثرة الرحمة دلالة مطابقية.بل المدلول المطابقي الأول لكلمة الرحمان هو الامتلاء بالرحمة.فيلزم من ذلك كثرة صدور الرحمة عنه للمستحق لها.فالفيض والصدور من لوازم المعنى، خارج عنه عارض له.وكلمة الرحيم، تدل على الثبات والدوام والرسوخ، فالرحمان ناظرة للكم، والرحيم ناظرة للكيف.بالإضافة إلى المبالغة في ذلك مثل كلمة عليم.
سبب اختيار هاتين الصفتين:
وهنا سؤال يقول: لماذا اختار الله سبحانه هذين الوصفين في هذه الآية الكريمة – البسملة – التي يفترض أن يرددها الإنسان في مختلف شؤونه وحالاته، وربما يرددها عشرات المرات في كل يوم، ثم اعتبرت هذه الآية أعظم آية في القرآن الكريم؟ ولمَ لم تذكر في البسملة صفات أخرى، مثل: التواب، الغفور، الشافي، الكريم، الخالق، الرازق، العليم، القوي، الرؤوف، الخ؟
والجواب – باختصار شديد -: إن المطلوب للإنسان في سير حياته أن تشمله العناية الإلهية، فيستفيد من خالقيته تعالى خلقاً، ومن رازقيته رزقاً، ومن حكمته تدبيراً، ومن قوته وانتقامه وجبروته حماية ورعاية، ومن عزته عزاً، ومن كل صفاته الجمالية كمالاً وجمالاً، وقوة، وصحة، وشفاءً، وتوبة ومغفرة، الخ..
كل هذه الأمور وسواها مآلها إلى صفة الرحمانية والرحيمية فيه تعالى.فمن خلال الرحمة يصدر ذلك كله عن الذات الإلهية، فيرزق تعالى ويشفي، ويدبر، ويقوي، ويتوب، ويغفر، الخ..لكونه رحيماً ورحماناً.ولا توجد أية صفة أخرى تستبطن هذه الصفات وسواها.فكلمة التواب، أو الغفور، أو الشافي، أو الرازق، الخ..لا تقوم مقام رحمان ورحيم.أي إن كلمة التواب مثلاً لا تقوم مقام الرازق أو الخالق، لأنها لا علاقة لها بالرزق، والشفاء.وكذلك كلمة الرزاق لا تقوم مقام غيرها من الصفات، وهكذا..
أما كلمة الرحمان الرحيم، فإنها تستدعي أن يشفيك الله لكونه إلهك الراحم، وأن يقويك لأنه أيضاً إلهك الراحم، وأن يتوب عليك ويرزقك لكونه كذلك إلهك الراحم، وهكذا..
فإذا دخلت من باب الرحمة، فإنه يوصلك إلى مضمون سائر الصفات، ويمكنك منها جميعاً.كما أنك – من جهة أخرى – لا تريد هذه الرحمة لمرة واحدة، بل تريد دوامها، واستمرارها في الدنيا والآخرة، وفي كل حال ومجال.
وخلاصة الأمر: إننا ندخل من باب الرحمة إلى عالم الفيوضات الإلهية اللامحدود والذي لا ينضب.ونحصل على كل مقتضيات سائر صفات الذات الإلهية المقدسة وعلى كل شيء، ونحل بذلك كافة مشاكلنا، وفي كل حين فنحصل على الرزق، والشفاء، والغفران، والتوبة، الخ..
ولا توجد أية صفة أخرى سوى الرحمانية والرحيمية قادرة على تلبية حاجات الإنسان، وتحقيق طموحاته، وتحصينه من اليأس، الخ.
كلمة "الرحمان" علم أم صفة؟
وآخر ما نلفت النظر إليه هنا هو: أنه تعالى، قد جعل كلمة الرحمان صفة للفظ الجلالة.مع أن البعض يدعي: أنها قد أصبحت علماً بالغلبة، فكيف يصح وصف العلم بالعلم؟
ونقول: إن صيرورتها علماً بالغلبة غير ظاهر، ووصف لفظ الجلالة بها دليل على أنها لا تزال صفة.وقوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ﴾ (الإسراء/110) لا يدل على عَلَميتها، لا مكان أن يدعو الإنسان الله وأن يدعو التواب، والكريم، والشافي، الخ..ولا تجعل الدعوة هذه الأمور علماً.
ويمكن أن يقال: إنك إذا سميت رجلاً بكلمة "عادل" أو كريم: فإن لاحظت العَلَمية فيها، فلا يصح الوصف بها، وإذا لاحظت الوصفية، وأنه يملك صفة العدل صح الوصف بها.والحال بالنسبة لكلمة الرحمان من هذا القبيل.