الدرس الرابع والثلاثون
أمّا التفسير المتداول المنسوب للقمي ففيه خلط واضطراب. وقد قيل انّه تلفيق من املاءاته على تلميذه أبي الفضل العباس بن محمد بن القاسم، وما رواه التلميذ نفسه بسنده الخاص عن أبي الجارود - زياد بن المنذر السرحوب (ت:150) - وعن مشايخه، بل ربّما يبدو ان صاحب التفسير المطبوع حالياً ليس هو أبا الفضل العباس، لأنّ التفسير يبتدئ بقوله "حدثني أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم...".
فبالإضافة لعدم وجود ذكر للعباس بن محمد في الأصول الرجالية، لا يعرف الشخص الذي يحدّث عنه.
وبعد هذا التوضيح نعرف انّه لا يمكن الاعتماد على هذا التفسير المطبوع(1). وانّ محتواه لا يعبّر عن رأي الشيعة الإمامية.
وأمّا كتاب "بيان السعادة في مقامات العبادة" فمؤلفه قطب من أقطاب الصوفية، وهو سلطان محمد بن حيدر البيدختي الكنابادي، زعيم فرقة "نعمة اللهي" الملقب - في الطريقة - بسلطان علي شاه، كان من مواليد سنة (1215 هـ. ق) وقد فرغ من تأليفه عام (1311) وطبع الكتاب لأول مرة عام 1314. ونسخ الكتاب مبذولة يجدها الطالب في عامة المكتبات(2).
لكن هذا المستشرق - الباحث الدقيق والأمين! - لأجل أن يعطي قيمة وأهمية لموضوع بحثه حول هذا الكتاب زعم ان تأليف الكتاب تم عام (311هـ = 923م) ليرجعه الى بدايات القرن الرابع الهجري، ولكي تنطلي لعبته هذه حرّف اسم المؤلف الى سلطان محمد بن حجر البجختي، حتى لا يفتضح بمراجعة كتب تراجم الرجال حول اسم المؤلف(3).
مرحباً وعجباً لهذه الأمانة العلمية!!
وليت الأمر اقتصر على هذا المستشرق، بينما نجد كاتباً (مسلماً) هو الشيخ خالد عبدالرحمن العكي - المدرّس بدائرة الافتاء العام بدمشق - يرتكب نفس الأخطاء الفضيعة تقليداً وتبعيةً لهذا المستشرق من دون بصيرة. فإنّه - بعد ان ينتقد الاتجاه الشيعي في التفسير - يذكر انّ اقدم تفسير شيعي هو تفسير جابر الجعفي المتوفى سنة 128، ثم يجيء تفسير "بيان السعادة في مقام العبادة" للسلطان محمد بن حجر البجختي وقد انتهى منه سنة 311، وتفسير القمي في القرن الرابع(4).
ولا يهمّنا الآن التعقيب على باقي كلامه بعد أن عرفنا وزنه العلمي.
ثم نختتم تعليقنا على ما نسبه هؤلاء الجهلة والحاقدون لشيعة أهل البيت(عليهم السلام) فنقول: بأنّهم مع اعترافهم بكون مؤلف الكتاب من الصوفية كيف يعتبرون رأيه معبِّراً عن رأي الشيعة، مع وضوح أن الذوق الصوفي لا يعبّر عن أصحاب المذهب الذي ينتمي إليه صاحبه الصوفي سواء كان سنياً أم شيعياً. وهذا أمر يعرفه الجميع، لا يجدر بمن يرى نفسه كاتباً أو باحثاً أن يفوته ذلك، لكنه التعصب الذي يعمي ويصم!(5).
إذن عرفنا الرأي السائد بين علماء الشيعة في نفي التحريف عن القرآن زيادة ونقيصة على مرّ العصور المتتالية، لكن في عهد قريب التزم بعض المحدّثين بفكرة النقيصة في القرآن معتمدين على ظواهر بعض الأخبار المروية في المصادر الحديثية، والتي لم يعمل على طبقها جلّ علماء الشيعة خلال العصور المختلفة. ونلاحظ في طريقة هؤلاء - شأن غيرهم من أهل الحديث - إلغاءهم دور العقل وابتعادهم عن التحقيق والتنقيح في الأخبار، حتى ذكر بعضهم أنّ "ماتعارض فيه محض العقل والنقل من غير تأييد بالنقل فهذا لا نرجح فيه العقل بل نعمل بالنقل"(6).
وجرى على هذا المنوال المحدث النوري الحسين بن محمد تقي (1254 - 1320هـ) حيث ألّف كتاباً لأِثبات التحريف - بمعنى نقص القرآن الموجود - سمّاه "فصل الخطاب في تحريف الكتاب". وقد واجهه العلماء المعاصرون له ومن بعده بالرفض والنكير، وألفوا كتباً في ردّ ما اعتمده من الأدلة على ذلك ومناقشتها.
يحدث السيد هبة الدين الشهرستاني - حيث كان طالباً في الحوزة العلمية بسامراء في عهد مرجعية الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي - في رسالة بعثها تقريظاً لرسالة "البرهان" التي ألفها الميرزا مهدي البروجردي. في مدينة قم المشرفة (عام: 1373هـ. ق) يقول السيد الشهرستاني في رسالته: كم أنت شاكر مولاك إذ أولاك بنعمة هذا التأليف المنيف، لعصمة المصحف الشريف عن وصمة التحريف، تلك العقيدة الصحيحة التي أنست بها منذ الصغر أيام مكوثي في سامراء - مسقط رأسي - حيث تمركز العلم والدين تحت لواء الإمام الشيرازي الكبير، فكنت اراها تموج ثائرة على نزيلها المحدّث النوري بشأن تأليفه كتاب "فصل الخطاب" فلا ندخل مجلساً في الحوزة العلمية إلاّ ونسمع الضجة والعجة ضد الكتاب ومؤلفه وناشره يسلقونه بألسنة حداد...(7).
وممن كتب في رد المحدث النوري معاصره الفقيه الشيخ محمود بن أبي القاسم الشهير بالمعرّب الطهراني (1313) في رسالة قيمة سماها "كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب" فرغ منها في (17 ج2 عام 1302) تقرب من اربعة آلاف بيت - من الشعر - في 300 صفحة مما ادى الى تراجع الشيخ النوري عن رأيه بعض الشيء، فقام بتأليف رسالة اخرى فارسية - فرغ منها في محرم 1303 - بصدد اجابة الشيخ الطهراني، وتوجيه ما يقصد من التحريف، وكان يقول: لا ارضى عن الذي يطالع (فصل الخطاب) أن يترك النظر في الرسالة الجوابية على (كشف الارتياب). وكان يوصي كل من كانت عنده نسخة من (فصل الخطاب) أن يضمّ إليه تلك الرسالة، فإنها بمنزلة المتمم لذلك الكتاب والكاشف عن مقصود مؤلفه(8).
يقول الشيخ آغا بزرك الطهراني: سمعت شيخي النوري يقول: اني حاولت في هذا الكتاب اثبات ان الموجود بين الدفتين كذلك، باق على ما كان عليه في أول جمعه كذلك في عصر عثمان، ولم يطرأ عليه تغيير وتبديل كما وقع في سائر الكتب، فكان حريّاً بأن يسمى (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب) فتسميته بهذا الاسم - اي فصل الخطاب في تحريف الكتاب - الذي يحمله الناس على خلاف مرادي، خطأ في التسمية ولكني لم أرد ما يحملونه عليه، بل مرادي اسقاط بعض الوحي المنزل الإلهي وإن شئت فسمّه "القول الفاصل في اسقاط بعض الوحي النازل"(9).
على كل حال عمّت حالة الرفض - لرأي النوري - المراكز الشيعية في تلك الفترة وما بعدها الى يومنا هذا، كما اشرنا الى ذلك عند ذكر العلماء الأعلام الذين رفضوا فكرة التحريف بطبقاتهم المختلفة. فمن الظلم الفاحش نسبة التحريف لشيعة أهل البيت(عليهم السلام) مع هذا الموقف العام الرافض، بينما نجد أن كلمات وآراء غيرهم أقرب الى ادعاء التحريف، كما اوضحناه.
محاولات يائسة لتحريف القرآن
لقد استهدف أعداء الإسلام القرآن الكريم باساليب مختلفة، وبعد أن فشلت محاولاتهم في الطعن فيه والتقليل من شأنه لتشكيك المسلمين بكتابهم وابعادهم عنه، عمدوا الى التدخل المباشر في التلاعب بآيات القرآن الكريم وتحريفه، ففي أيلول عام 1960م أفادت انباء القاهرة ان (اسرائيل) قد قامت بطبع مائة ألف نسخة من القرآن الكريم، وقد ادخلت عليها التحريف، وذلك بإحداث اكثر من ألف خطأ مطبعي ولفظي متعمّد في طبعة محرّفة للقرآن، وقد تم توزيع هذه النسخ المحرّفة في جملة من البلدان الآسيوية والافريقية، كالمغرب وغانا وغينيا ومالي ودول أخرى، وقد اكتشفت سفارة الجمهورية العربية المتحدة في المغرب هذه المحاولة الأثيمة فأشعرت بذلك السلطات في القاهرة، وبعثت إليها ببعض النسخ المحرّفة.
ومن جملة ما تضمنته هذه النسخ من فقرات التحريف:
ألف: حذف الآيتين التاليتين من القرآن الكريم - حيث منع تدريسهما في مدارس العرب والمسلمين في الأرض المحتلة - ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(10).
ب: حذف كلمة "غير" لينقلب المعنى عكسياً من قوله تعالى ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(11).
ج: حذف كلمتي "ليست" من الآية الكريمة ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ﴾(12).
د: ابدال عبارة (والله عزيزٌ حكيم) بعبارة "والله غفور رحيم" من قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(13)(14).
وما زلنا بين حين وآخر نسمع عن طباعة جديدة محرّفة لكتاب الله الكريم وأساليب دنيئة اُخرى يروم من خلالها الأعداء إطفاء نور الله وتشويه معالم تنزيله ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾(15).
الأسئلة
1 - ما هي العلوم التي يحتاجها الدارس المتخصّص لفهم القرآن الكريم؟
2 - اذكر ثلاثة آراء في توجيه معنى النزول الدفعي للقرآن.
3 - اذكر المعاني الأربعة للتحريف.
4 - اذكر شاهدين على ان المقصود من التحريف الوارد في بعض النصوص التحريف في المعنى.
5 - اذكر ثلاثة شواهد على ردّ ادعاء وجود اسماء بعض الأئمة ضمن النص القرآني.
6 - كيف تعالج ظاهر بعض النصوص التي يبدو منها وقوع التحريف في سورة الفاتحة والجمعة؟
7 - ما هو موقف الرأي العام الشيعي من التحريف؟
1- يراجع كليات في علم الرجال: 309 - 320 وصيانة القرآن من التحريف: 230 - 229.
2- صيانة القرآن من التحريف: 96.
3- من غير المعقول ان نفترض انها اخطاء تجمّعت صدفة من دون قصد، إذ كيف يسمح باحث لنفسه أن يجعل محور دراسته كتاباً لمؤلف ما من دون مراجعة كتب التراجم حولهما، ثم كيف يقع في هذين الالتباسين الواضحين، وكيف لا يميز باحث بين كتاب مؤلَّف في القرن الرابع عشر وطبيعة مؤلَّفات القرن الرابع؟!.
4- أصول التفسير وقواعده: 249 - 250 (ط بيروت) ويراجع أيضاً صيانة القرآن من التحريف: 93 - 100.
5-والمؤسف ان ذيول هذه الفكرة السخيفة ما تزال تلقي بظلالها على بعض الشخصيات في هذا العصر الذي انفتحت فيه الشعوب والثقافات على بعضها، حتى ان علال الفاسي - من الشخصيات المعاصرة في المغرب العربي - عندما زار إيران كان يهرع عند تجواله في مدينة (قم) الى ملاحظة نسخ القرآن الموجودة التي يراها، وعندما زار سماحة السيد محمد حسين الطباطبائي أخذ يلاحظ نسخ القرآن الموجودة في مكتبته، فقال له السيد: ايّها الاستاذ كأنّك تبحث عن (قرآن الشيعة)، لأنّي لاحظتك تفحص نسخ القرآن الموجودة أينما حللت. فقال الفاسي: أحسنت، بلى لعن الله الاستعمار الفرنسي والمستشرقين الغربيين حيث أشاعوا في شمال أفريقيا ان قرآن الشيعة يختلف عن قرآن أهل السنّة، وانا عندما حللت في ايران لاحظت عشرات النسخ من القرآن في طهران ومشهد وقم في المكتبات ومحلات بيع الكتب ودققت فيها فلم أجد أدنى تفاوت بينها مع باقي نسخ القرآن، والآن عرفت مدى فاعلية خطة هؤلاء - الغربيين - في التفريق بين المسلمين. (يراجع طبقات مفسرين شيعه 1/87 - 88).
ويجدر بنا أن نتساءل هل ان هذه الخطة الاستعمارية جاءت من فراغ؟ أو ليس تعصب بعض المسلمين وافتراءاتهم خلقت الأرضية المناسبة لهم؟!
وهل يليق (بالعلماء والمثقفين) - وهم على اعتاب القرن الحادي والعشرين - أن تنطلي عليهم هذه الخطة وما تحمله من فكرة سخيفة، وهم يشاهدون عشرات الملايين من شيعة أل البيت(عليهم السلام) منتشرين في البلاد التي يحكمها غير الشيعة، فكيف لم يستطع هؤلاء الحكام - بما يمتلكونه من إمكانيات - الكشف عن هذا القرآن المزعوم، خاصة ان شيعة أهل البيت(عليهم السلام) يقفون في مناطق عديدة من العالم في مواجهة قوى الكفر العالمي بقدراتها الهائلة وبمسعاها الحثيث في تمزيق شمل المسلمين وتشتيتهم؟!!
والغريب انّه بينما يتهم شيعة أهل البيت(عليهم السلام) بهذه الفرية الباطلة نجد بعض بلاد المغرب العربي تلتزم مصحفاً على قراءة (ورش) يختلف جزئياً عن المصحف المنتشر بين المسلمين بقراءة عاصم، والذي منع تداوله في كثير من البلدان الإسلامية، ومع ذلك لا يُتّهمون بالتحريف واختلاق مصحف آخر، وما أدري كم كان حجم التُهم على اتباع أهل البيت(عليهم السلام) لو كان حكام دول المغرب العربي منتسبين إليهم؟!
6- الأنوار النعمانية: 3 133.
7- البرهان: 143 - 144.
8- صيانة القرآن من التحريف: 115 - 116.
9- الذريعة: 10 220 - 221، و 16 231 - 232، و 18 9.
10- سورة الممتحنة: 8 - 9.
11- سورة آل عمران: 85.
12- سورة البقرة: 113.
13- سورة المائدة: 38.
14- يراجع كتاب دراسات قرآنية: 174 - 175.
15- سورة الصف: 8.