كيف يقول زكريَّا: ﴿أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾
المسألة:
قال تعالى في سورة آل عمران الآية 40: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء / فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ / قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾(1).
كيف يطلب نبيّ الله زكريا من ربّه الذّرية, وعندما يستجيب ربه لدعاءه, يسأل ربّه: "كيف؟!"، ويعلمه بحاله؟ إذا كان يعلم أنَّه بهذه الحال لا يكون له الولد فكيف يسأل ربَّه؟!
الجواب:
الاستفهام الذي صدر عن نبيّ الله زكريَّا (ع) لم يكن للتّعبير عن الاستبعاد لقدرة الله على استجابة الدَّعوة التي دعا بها ربَّه وإنَّما هو لغرض التَّعبير عن الاستعظام لقدرة الله تعالى بقرنية أنَّ زكريَّا ذكر ما عليه من حالٍ في صلب دعائه في سورة مريم: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا﴾(2).
فرغم أنَّه كان يُدرك من نفسه أنَّه شَيخٌ كبيرٌ وأنَّ زوجته عقيم إلا أنَّه دعا ربه أنْ يَرزُقَهُ ولداً، فلو أنَّه لم يكن موقناً بقدرة الله عز وجل على استجابة دعائه لكان تصدِّيه للدّعاء عبثيًّا. وذلك يُمثِّل قرينةً واضحةً على أنَّ الاستفهام الذي صَدَرَ عنه بعد استجابة دعائِهِ لم يكن استبعاداً وإنَّما كان للتّعبير عن الاستعظام لقُدرة الله تعالى.
فمساق الاستفهام الوارد في الآية الشَّريفة مساقُ قولنا لمن ظَلمناه وهو مقتدرٌ على ردَّ ظُلامته إلا أنَّه عفا: "كيف عفوتَ عنَّي وقد أسأتُ إليك؟"، فهذا الاستفهام إنما هو لغرض التَّعبير عن الإعجاب وليس لغرض استبعاد صدور العفو منه، فلأن مقتضى الطَّبيعة هو انتقام المظلوم ممن ظلمه إذا تمكن من ذلك، فإذا عفا المظلوم عمَّن ظلمه كان ذلك مُوجباً للاستغراب والإعجاب.
وكذلك الحال في المقام فلأنَّ طبيعة الأمر أنَّ الشَّيخ الكبير والمرأة العقيم لا يمكن أن يُنجبا ذُرِّيَّةً، فإذا وقع ذلك منهما استغربا وأصبح الاستعظامُ لقدرة الله تعالى حاضراً في نفسيهما بعد أن كان مركوزاً، وذلك ما يدعوهما للتَّعبير عن الاستعظام المشوب بالاستغراب رُغم أنَّهما كانا يُدركان القُدرة الإلهية على ذلك إلا أنَّ طبيعة النفس الإنسانية هي الانسياق مع هذا الشُّعور والتَّعبير عنه بمجرَّد حصول الأمر الغريب.
فثمَّة شعورٌ بالالتذاذ والأُنس والاستعظام تمتزج جميعاً في النَّفس فتنساق النَّفس للتّعبير عنه بالاستفهام الذي يستبطن التَّعظيم والامتنان.
فشأنُ المقام شأنُ من أُعطي جائزةً عظيمةً لا يُعطى مثلها عادةً لمثله فهو يُعبِّر عن ابتهاجاته واستكثاره لهذه المنحة بالاستفهام وأنَّه كيف مُنح هذه الجائزة والحال أنَّها لا تُمنح لمثله، فالعرف يفهم من هذه الاستفهام الشُّكْرَ للمانح والامتنان والاستعظام لسخائه.
هذا وقد ذُكِرَ احتمالانِ آخران لمعنى الاستفهام في الآية الواردة على لسان زكريا (ع).
الاحتمال الأول: أنَّ الله تعالى لمَّا أخبره باستجابته لدعائه وأنَّه سيرزُقُه بولدٍ اسمه يحيى سأل ربه عن كيفيَّة ذلك وهل سيكون الولد الذي سيمنحه إيّاه من زوجته العقيم أم من زوجة أخرى فجاءه الجواب ﴿كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾(3) ، فعلم أن الولد الذي سيمنحه إياه سيكون من زوجته العقيم.
والاحتمال الثاني: أنَّ الله تعالى لما أخبره باستجابة دعائه وأنَّه سيهبه ولداً اسمه يحيى سأل ربه عن كيفية ذلك وهل سيمنحه الولد بعد أن يُرجعه وزوجته شابَّين ويرفع العُقم عن زوجتِهِ أو سيمنحه إيَّاه وهو على هذا الحال فجاء الجواب: ﴿كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾(4) ، فعلم أنَّ الله تعالى سيمنحه يحيى وهو على شَيخُوخته وزوجتُهُ على عقمها.
1- آل عمران/38-40
2- مريم/4- 5
3- آل عمران/40
4- آل عمران/40