التمثيل الثلاثون – سورة النحل
﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون﴾.(1)
تفسير الآيات:
"رغد" عيش رغد ورغيد: طيّب واسع، قال تعالى: ﴿وكلا منها رغداً﴾.
يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث:
أ: آمنة: أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم، ولا يُشنُّ عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.
ب: مطمئنة: أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه، فالاطمئنان رهن الأمن.
ج: ﴿يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان﴾، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى، والدليل على ذلك، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب: ﴿واسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أقْبَلْنَا فِيهَا وَإنّا لَصادِقُون﴾.(2) والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.
وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الأصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.
هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.
ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أُخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية، أعني بعث الرسول إليها، كما أشار إليه في الآية الثانية، بقوله: ﴿وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم﴾.
وهؤلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا الله عليها كفروا بها.
أمّا النعمة المعنوية، أعني: الرسول فكذّبوه ـ كما هو صريح الآية الثانية ـ وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.
روى العياشي، عن حفص بن سالم، عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، أنّه قال: "إنّ قوماً في بني إسرائيل توَتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها، فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها ويأكلونها، وهو قول الله :﴿ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون﴾.(3)
وفي رواية أُخرى عن زيد الشحّام، عن الصادق (عليه السلام) قال: كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها، قال: فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم، ثم قال: إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا، فقال بعضهم لبعض: لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.
قال (عليه السلام) : فلمّا فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلاّ أكلته من شجر أو غيره، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به، فأكلوه وهي القرية التي قال الله تعالى: ﴿ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون﴾.(4)
وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة الله. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية، فكلّ ذلك كفران لنعم الله .
ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية، وأشار إليها بآيتين:
الأولى: ﴿فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون﴾.
الثانية: ﴿فَأخذهم العذاب وهم ظالمون﴾.
فلنرجع إلى الآية الأولى، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.
وهناك سوَال مطروح منذ القدم وهو أنّه سبحانه جمع في الآية الأولى بين الذوق واللباس، فقال: ﴿فَأذاقَهَا الله لِباسَ الجُوعِ﴾ مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم، بأن يقول: "فأذاقها الله طعم الجوع".
ومقتضى اللفظ الثاني أعني: اللباس، أن يقول: "فكساهم الله لباس الجوع" فلماذا عدل عـن تلك الجملتين إلى جملة ثالثــة لا صلـة لها ـ حسب الظاهر ـ بين اللفظين؟
والجواب: انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.
أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس، ولذلك قال: ﴿لباس الجوع والخوف﴾ ولم يقل "الجوع والخوف" لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.
وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ،وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش و الخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته، فقال: ﴿فَأذاقَهُمُ الله لِباس الجوع والخَوف﴾.
هذا ما يرجع إلى تفسير الآية، و أمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.
نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه، ثمّ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فكفروا به وبالغوا في إيذائه، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.
قال المفسرون: عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.
وأمّا الخوف، فهو انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.
ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله: ﴿أوَ لَمْ نُمَكّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَىْءٍ﴾.(5)
ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.
أمّا أوّلاً: فلأنَّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.
وثانياً: لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة، وان كان يذكره بعض المفسرين.
وثالثاً: انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبّة تماديهم في كفرهم،والسورة مكية إلاّ آيات قليلة، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف، لتكون أحوال تلك الأمم عبرة للمشركين من أهل مكة و ما والاها.
1- النحل:112ـ113.
2-يوسف:82.
3- تفسير نور الثقلين:3|91، حديث 247.
4-تفسير نور الثقلين: 3|92، حديث 248.
5- القصص:57.