فتنة خلقة الشيطان
)قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(.
إن هذه الآيات معبرة ومخيفة بالنسبة لخلقة آدم.. فمنذ اليوم الأول لبدء المسيرة البشرية، حدثت واقعة مؤثرة وبليغة –وهي التضارب بين الهدى الإلهي، وبين الحالة العنادية بالنسبة إلى رب العالمين- فقد بدأ انحراف الشيطان عندما أمره الله -عز وجل- بالسجود، فكان انحرافه من منطلقين: المنطلق الأول: الانحراف الفكري.. والمنطلق الثاني: الانحراف النفسي والقلبي.. ومن هنا يُوتى بني آدم.
العنصر الأول: الانحراف الفكري:
إن الانحراف الفكري كان في القياس الباطل الذي قاسه إبليس، حيث أن إبليس على سابقته العريقة في العبادة، ولعله قلّ مَن عَبَد الله -عز وجل- من الجن والإنس -ماعدا ذوات المعصومين- كإبليس.. فقد ركع ركعتين في السماء أربعة آلاف سنة.. وإذا به عند الاختبار يقوم بعملية سخيفة جدا.. فقد رأى بأن آدم خُلق من تراب؛ وطبيعة التراب عنصر ساكن غير فعال.. ورأى نفسه بأنه مخلوق من النار؛ والنار وجود ذو إنارة، وذو تأثير في باقي الأمور، فالنار لها قدرة تحويل الجماد إلى سائل، ولها قدرة عجيبة في تغيير ماهية الأشياء.. ولأنه رأى أن مادة الخلق عنده أشرف من مادة الخلق في آدم، فقد عمل في قياس باطل، وقال في سورة الأعراف: )أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ(.
فباعتبار أن المادة الأولية له، أشرف من المادة الأولية لآدم فهو خير منه!.. ولم يلتفت إلى جوهر آدم، وإلى جوهر الشيطان، فقد نظر إلى القشر، ولم ينظر إلى اللب.. وهنا الخطأ الأول الذي وقع فيه إبليس، وهو أن عبادته لم تؤثر في عقله ومستوى تفكيره.. ولهذا فإننا نحذر الإنسان العابد الذي لا عقل له، من الوقوع في خطر الانحراف القاتل في يوم من الأيام.. يقول الله -عز وجل- مخاطبا العقل: (... وعزتي وجلالي!.. ما خلقت شيئا أحسن منك، ولا أحب إلي منك أبدا؛ بك آخذ، وبك أُعطي).. وفي حديث آخر، ما مضمونه: (بك أثيب وبك أعاقب، ولا أكملك إلا فيمن أحب).. فإذن، هذا هو جوهر العقل في وجود الإنسان.. وعليه، فإن العيب الذي في إبليس، هو أنه كان عابدا، ولكنه لا يعقل.
العنصر الثاني: الانحراف النفسي والقلبي:
إن وجود الملكات الخبيثة في النفس، هي بمثابة الجذور المستنبتة.. فالإنسان قد يقضي على السيقان، وعلى الأوراق.. ولكن هذه الجذور ستؤثر في يوم ما على الإنسان.. إن إبليس لم يعش حالة الاستكبار عندما خُلق آدم، فقد كان يعيش في صومعته، ويعيش جو العبادة، وليس هناك أي تحدٍّ أو اختبار، وليس هناك عنصر مقارنة.. ولكن بمجرد خلق آدم، وأصبحت هناك عملية مقارنة، ظهر استكباره، وظهرت هذه الجوهرة الخبيثة في نفسه.. فمثلا: قد يكون هناك إنسان مؤمن، يعيش أجواء غير مثيرة غريزيا، ولكن عندما تسنح له أي فرصة، وإذا به ينقلب على عقبيه، وتظهر الملكات الفاسدة في نفسه.
فإذن، إن إبليس مضروب في عقله ونفسه، ولهذا وصل إلى درجة التحدي.. فإبليس لم ينكر وجود الباري في يوم من الأيام، بل إنه يرى وجود الله وجودا متمثلا إلى درجة أنه يقسم بعزة الله عز وجل، ويتكلم مع المولى -عز وجل- كلاما مباشرا لا ريب فيه.. ولكن مع ذلك يصل به الخذلان إلى أن يقف بهذا الشكل من التحدي، الذي لم يُعهد في تاريخ الأرض.. )قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(.. يقول: يارب لأنك أمرتني وأنا انحرفت في هذا الأمر، فأنت الذي أغويتني.. انظروا إلى سوء أدب إبليس!.. فهذا عنصر من عناصر الضعف الفكري فيه، وهو أن يرى بأن الأمر الإلهي الذي لزمته المخالفة، هذا الأمر يُسند إلى الله، فيقول: )بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ(.
إن القرآن الكريم يهوّل ويبيّن، ويحذّر من كيد إبليس.. ولكن في نفس الوقت يكشف ماهية الإغواء، فإبليس ليس له سلطان عليكم، إنه لا يغير ماهية الأشياء، فالقبيح قبيح، والجميل جميل، والشيطان يزين فقط.. فهو بمثابة العجوز الشمطاء القبيحة، ولكن تأتي الماشطة المزينة، فتدخلها الغرفة -أنت رأيتها قبل قليل قبيحة جدا- وتخرج وإذا هي مزينة، فتلقن نفسك أنها شابة جميلة، فتقترن بها، فيكون الهلاك.. والشيطان كذلك دوره دور التزيين، ولهذا فإنه يوم القيامة عندما يحاسب ويعاتب، فإنه يقول: )وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي(.. أي أنا لم أؤثر على قوى الإرادة فيكم، ولم أتصرف في جوارحكم، ولم أغيّر من عقولكم.. ولكن خارجا زينت الباطل، وألبسته ثوب الحق.. فإذن، إنه يتبرأ من الذين اتبعوه يوم القيامة، ويدخل النار مع الداخلين.
)إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(.. إن الفارق بين المخلِص والمخلَص كالفارق بين المخلِص وغير المخلِص في شدة البعد بين هاتين الكلمتين.. وبكلمة جامعة: إن المخلِص هو الذي يحاول أن يظهر بمظهر المخلصين بما أوتي من قوة، والمخلَص هو الذي قبل الله تعالى إخلاصه واجتابه.. ولهذا يخاطب الله تعالى مريم (ع): )وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ(.. أي أن هناك اصطفاءين: اصطفاء أولي، واصطفاء ثانوي.. فالمخلِص إذا استمر في إخلاصه، وكان صادقا في إخلاصه.. يرجى أن يكون في يوم من الأيام من الذين اجتباهم الله، وجعلهم في حصنه الحصينة، وخصهم بالرعاية.. وعليه، فإن معنى ذلك أن الإنسان غير المخلَص محكوم عليه بالإغواء، سواء كان مخلِصا أو كان مشركا.