الحمد لله الذي جعل الصدق منجاة، والصلاة والسلام على رسول الله الصادق الأمين.. إن من سبر أحوال غالب الناس اليوم وجد بضاعتهم في الحديث "الكذب" وهم يرون أن هذا من الذكاء والدهاء وحُسن الصنيع، بل ومن مميزات الشخصية المقتدرة.
ولقد نتج عن هذا الأمر عدم الثقة بالناس حتى أن البعض لا يثق بأقرب الناس إليه، لأن الكذب ديدنه ومغالطة الأمور طريقته.
جعل الله الأمة الإسلامية أمة صفاء ونقاء في العقيدة والأفعال والأقوال. فالصدق علامةٌ لسعادة الأمة، وحسن إدراكها، ونقاء سريرتها. فالسعادة مفتاحها الصدق والتصديق والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب.
ولقد أخبر سبحانه وتعالى أنّه لا ينفع العباد يوم القيامة إلاّ صدقهم، وجعل علم المنافقين الذين تميَّزوا به هو الكذب في القول والفعل.
فالصدق: بريد الإيمان، ودليله، ومركبه، وسائقه، وقائده وحليته، ولباسه، بل هو لبّه وروحه .
فما أنعم الله على عبد من نعمة بعد الإسلام أعظم من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته، ولا ابتلاه ببلية أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده.
إياك والكذب، فإنّه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس، فإن الكاذب يصوِّر المعدوم موجودا والموجود معدوما والحق باطلا والباطل حقّا، والخير شرا والشر خيرا، فيفسد عليه تصوره وعلمه، عقوبة له، ثم يصور ذلك في نفس المُخاطب المغترّ به الراكن إليه فيفسد عليه تصوره وعلمه، ونفس الكاذب مُعْرضة عن الحقيقة الموجودة نزّاعة إلى العدم مؤثرة للباطل، وإذا فسدت عليه قوة تصوره وعلمه التي هي مبدأ كل فعل إرادي فسدت عليه تلك الأفعال وسَرَى حكم الكذب إليها مضار صدورها عنه كصدور الكذب عن اللسان، فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله.
و الكذب أساس الفجور كما قال النبي : «إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النَّار». وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها عملها كما أفسد على اللسان أقواله، فيعمّ الكذب أقواله وأعماله وأحواله، فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدق يقلع تلك المادة من أصلها.
ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق، وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب. فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشأه الصدق. وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشأه الكذب، والله تعالى يُعاقب الكذاب بأن يُقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويُثيب الصادق بأنه يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدهما ومضارّهما بمثل الكذب.
- قال علي رضي الله عنه: "أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب وشر الندامة ندامة يوم القيامة".
- كان أبو حنيفة قد جعل على نفسه أن لا يحلف بالله في عرض كلامه إلاّ تصدق بدرهم فحلف فتصدق به، ثم جعل أن يتصدق بدينار، فكان إذا حلف صادقا في عرض الكلام تصدق بدينار، وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها، وكان إذا اكتسى ثوبا جديدا كسى بقدر ثمنه الشيوخ العلماء، وكان إذا وضع بين يديه الطعام أخذ منه فوضعه على الخبز ثم يعطيه إنساناً فقيراً، فإن كان في الدار من عياله إنسان يحتاج إليه دفعه إليه وإلا أعطاه مسكينا.
- عن أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة قال: كان يقال: إن ربعي بن حراش رضي الله عنه لم يكذب كذبا قط، فأقبل ابناه من خراسان قد ناجلا، فجاء العريف إلى الحجاج فقال: أيها الأمير: إن الناس يزعمون أن ربعي بن حراش لم يكذب قط، وقد قدم ابناه من خراسان وهما عاصيان، فقال الحجاج: عليّ به، فلما جاء قال: أيها الشيخ. قال: ما تشاء؟ قال: ما فعل ابناك؟ قال: المستعان الله خلفتهما في البيت، قال: لا جرم والله، لا أسوؤك فيهما، هما لك.
- وقال مالك بن دينار: "قرأت في بعض الكتب: ما من خطيب إلاّ وتعرض خطبته على عمله فإن كان صادقا صدف، وإن كان كاذبا قرضت شفتاه بمقاريض من نار كلما قرضتا نبتتا".
- وقال مالك بن دينار: "الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يُخرج أحدهما صاحبه".
- وعن هارون بن رئاب قال: لما حضرت عبدالله بن عمرو الوفاة قال: إنه كان خطب إلى ابنتي رجل من قريش وكان مني إليه شبيه الوعد، فوالله لا ألقى الله عزَّ وجلّ بثلث النفاق اشهدوا أني قد زوجتها إياه.
- وكلم عمرو بن عبد العزيز الوليد بن عبد الملك في شيء فقال له: كذبت، فقال عمر: والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه.
- جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة إلى بني له فانكبت عليه، فقالت: كيف أنت يا بنيّ؟ فسأل الربيع: أرضعتيه؟ قالت: لا، قال: ما عليك لو قلت: يا ابن أخي، فصدقت؟.
- قال يزيد بن ميسرة: "الكذب يسقي باب كل شر، كما يسقي الماء أصول الشجر".
- قال عمر بن عبد العزيز: "ما كذبت كذبة منذ شددت عليّ إزاري "
إذا أردت أن تعرف قُبح الكذب من نفسك، فانظر إلى كذب غيرك وإلى نفور نفسك عنه واستحقارك لصاحبه واستقباحك لكذبه.
لا يكذب المرء إلاّ من مهانته
أو مفعلة السوء أو من قلة الأدب
اجتنب صحبة الكذاب فإنّه مثل السراب يلمع ولا ينفع، ولا تجعل نفسك مهينة وأنت ترى أنّه في قرارة نفسه استطاع بذكائه أن يوهمك ويدلس عليك. بل انفر منه ولا تدعه يلوث سمعك ويخطِّيء معلوماتك ويفسد عليك صفاءك.
عود لسانك قول الخير تحظ به
إن اللسان لما عودت معتاد
موكل بتقاضي ما سننت له
فاختر لنفسك وانظر كيف ترتاد
جعلني الله وإياكم ممن يُقال لهم في ذلك اليوم المشهود والموقف العظيم: { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة]