الشبهات المثارة حول المكي والمدني
لقد كان موضوع المكي والمدني من جملة الموضوعات القرآنية التي أثيرت حولها الشبهة والجدل وتنطلق الشبهة هنا من أساس هي أن الفروق والميزات التي تلاحظ بين القسم المكي من القرآن الكريم والقسم المدني منه.. تدعو في نظر بعض المستشرقين إلى الاعتقاد بان القرآن قد خضع لظروف بشرية مختلفة اجتماعية وشخصية تركت آثارها على أسلوب القرآن وطريقة عرضه وعلى مادته والموضوعات التي عنى بها.
ويجدر بنا قبل أن ندخل في الحديث عن الشبهات ومناقشتها أن نلاحظ الأمرين التاليين لما لهما من تأثير في فهم البحث ومعرفة نتائجه.
الاول: انه لابد لنا أن نفرق منذ البدء بين فكرة تأثر القرآن الكريم وانفعاله بالظروف الموضوعية من البيئة وغيرها بمعنى انطباعه بها وبين فكرة مراعاة القرآن لهذه الظروف بقصد تأثيره فيها وتطويرها لصالح الدعوة فان الفكرة الأولى تعني في الحقيقة بشرية القرآن حيث تفرض القرآن في مستوى الواقع المعاش وجزءاً من البيئة الاجتماعية يتأثر بها كما يؤثر فيها بخلاف الفكرة الثانية فإنها لا تعني شيئاً من ذلك لأن طبيعة الموقف القرآني الذي يستهدف التغيير وطبيعة الأهداف والغايات التي يرمي القرآن إلى تحقيقها قد تفرض هذه المراعاة حيث تحدد الغاية والهدف طبيعة الأسلوب الذي يجب سلوكه للوصول إليها.
فهناك فرق بين أن تفرض الظروف والواقع نفسها على الرسالة وبين أن تفرض الأهداف والغايات التي ترمي الرسالة إلى تحقيقها من خلال الواقع أسلوبا ومنهجاً للرسالة. لان الهدف والغاية ليسا شيئين منفصلين عن الرسالة ليكون تأثيرهما عليها تأثيراً مفروضاً من الخارج.
فنحن في الوقت الذي نرفض فيه الفكرة الأولى بالنسبة إلى القرآن نجد أنفسنا لا تأبى التمسك بالفكرة الثانية في تفسير الظواهر القرآنية المختلفة. سواء ما يرتبط منها بالأسلوب القرآني أو الموضوع والمادة المعروضة فيه.
الثاني: إن تفسير وجود الظاهرة القرآنية لابد أن يعتبر هو المصدر الأساس في جميع الأحكام التي تصدر على محتوى القرآن وأسلوب العرض فيه. فقد تكون النقطة الواحدة في القرآن الكريم سبباً في إصدار حكمين مختلفين نتيجة للاختلاف في تفسير أصل وجود القرآن وسوف نورد بعض الأمثلة لهذا الاختلاف في الحكم عندما نذكر من شروط في المفسر للقرآن أن يكون ذا ذهنية إسلامية.
ومن اجل ذلك فنحن لا نسوغ لأنفسنا أن نقبل حكماً ما في تفسير نقطة حول القرآن الكريم، لمجرد انسجام هذا الحكم مع تلك النقطة بل لا بد لنا أن ننظر أيضاً - بشكل مسبق - إلى مدى انسجام الحكم مع التفسير الصحيح لوجود الظاهرة القرآنية نفسها.
إن الظاهرة القرآنية كما سنشرحه في البحوث القادمة ليست نتاجاً شخصياً لمحمد وبالتالي ليست نتاجاً بشرياً مطلقاً وإنما هي نتاج إلهي مرتبط بالسماء. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نجزم بشكل مسبق ببطلان جميع الشبهات التي تثار حول المكي والمدني لأنها في الحقيقة تفسيرات لظاهرة الفرق بين المكي والمدني على أساس أن القرآن الكريم نتاج بشري.
وبالأحرى يجب أن يقال: إن شبهات المكي والمدني ترتبط في الحقيقة بالشبهات التي أثيرت حول الوحي ارتباطاً موضوعياً لأنها ترتبط بفكرة إنكار الوحي ولذا فسوف نناقش هذه الشبهات بعد التحدث عنها لإيضاح بطلانها من ناحية وتقديم التفسير الصحيح للفرق بين المكي والمدني بعد ذلك من ناحية ثانية.
المصدر:
كتاب علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم