الإعجاز في المفهوم
الإعجاز: مصدر مزيد فيه من (عجز) إذا لم يستطع أمرًا، ضد (قدر) إذا تمكّن منه. يقال: أعجزه الأمر، إذا حاول القيام به فلم تسعه قدرته وأعجزتُ فلانًا: إذا وجدته عاجزًا أو جعلته عاجزًا.
والمُعجزة- في مصطلحهم- تطلق على كل أمر خارق للعادة، إذا قرن بالتحدّي وسلم عن المعارضة، يظهره الله على يد أنبيائه ليكون دليلاً على صدق رسالتهم(1).
وهي تتنوع حسب تنوع الأمم المرسل إليهم في المواهب والمعطيات، فتتناسب مع مستوى رقيّهم في مدارج الكمال، فمن غليظ شديد إلى رقيق مرهف، ومن قريب مشهود إلى دقيق بعيد الآفاق.وهكذا كلّما تقادمت الأمم في الثقافة والحضارة فإنّ المعاجز المعروضة عليهم من قِبَل الأنبياء(ع) ترقّ وتلطف، وكانت آخر المعاجز رقّة ولطفًا هي أرقاها نمطًا وأعلاها اسلوبًا، ألا وهي معجزة السلام الخالدة، عرضت على البشرية جمعاء مع الأبد، مهما ارتقت وتصاعدت في آفاق الكمال، الأمر الذي يتناسب مع خلود شريعة الإسلام.
ولقد صعب على العرب- يومذاك وهم على البداوة الولى- تحمّل عبء القرآن الثقيل، فلم،يطيقوه. ومن ثم تمنّوا الويُبدَّل إلى القرآن غير هذا، ومعجزة أخرى لاتكون من قبيل الكلام: ﴿قال الذين لايرجون لقاءنا ائن بقرآن غير هذا أوبدّله قل مايكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع الاّ مايوحى إليّ﴾ (2). إنها لم تكن معجزة للعرب فقط، وإنما هي معجزة للبشرية عبر الخلود، لكن أنّى لأمة جهلاء أن تلمس تلك الحقيقة وان تدارك تلك الواقعة سوى أنّها اقترحت عن سفه: أن يفجّر لهم من الأرض ينبوعا، أو تكون له جنة من نخيل وعنب ويفجّر الانهار خلالها تفجيرًا، أويسقط السماء عليهم كسفًا، أو يأتي بالله والملائكة قبيلاً، أو يكون له بيت م زخرف أو يرقى السماء، ولا يؤمنوا لرقّيه حتى ينزل عليهم كتابًا يقرؤونه...وقد عجب النبيّ (ص) من مقترحهم ذلك التافه الساقط، ممّا يتناسب ومستواهم الجاهلي، ومن ثم رفض اقتراحهم ذاك ﴿قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولا﴾ (3). أي ليس هذا من شانكم وأنّما هي حكمة بالغة يعلمها الحكيم الخبير.
قال الراغب الأصفهاني: المعجزات التي أتى بها الأنبياء (ع) ضربان: حسّي وعقلي: فالحسّي: ما يدرك بالبصر، كناقة صالح، وطوفان نوح، ونار إبراهيم وعصا موسى(ع).
والعقلي: مايدرك بالبصيرة، كالإخبار عن الغيب تعريضًا وتصريحًا، ولإتيان بحقائق العلوم التي حصلت عن غير تعلم.
فأما الحسي: فيشترك في إدراكه العامة والخاصة، وهو أرفع عند طبقات العامة، وآخذ بمجامع قلوبهم، وأسرع لإدراكهم، إلاّ أنه لايكاد يفرق- بين ما يكون معجزة في الحقيقة، وبين مايكون كهانة أو شعبذ أو سحرًا، أوسببًا اتفاقيًا، أو موطأة، أو احتيالاً هندسيًا، أو تممويهًا وافتعالاً- إلاّ ذو سعة في العلوم التي يعرف بها هذا يعرف هذه الأشياء.
وأما العقلي: فيختص بإدراكه كملة الخواص من ذوي العقول الراجحة، والأفهام الثاقبة، والروية المتناهية، الذين يغنيهم، إدراك الحق.
وجعل تعالى أكثر معجزات بني اسرائيل حسيًا لبلادتهم، وقلة بصيرتهم، وأكثر معجزات هذه الأُمّة عقليًا لذكائهم وكمال أفهامهم التي صاروا بها كالأنبياء. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (كادت أُمتي تكون أنبياء) (4).
ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على وجه الدهر غير معرّضة للنسخ، وكانت العقبات باقية غير متبدلة جعل أكثر معجزاتها مثلهما باقية. وما أتى به النبي(ص) من معجزاته الحسيّة، كتسبيح الحصا في يده، ومكالمة الذئب له، ومجيئ الشجرة إليه، فقد حواها وأحصاها أصحاب الحديث.
وأما العقبات: فمن تفكر فيما أورده (ع) من الحكم التي قصرت عن بعضها أفهام حكماء الأُمم بأوجز عبارة اطلع على أشياء عجيبة.
ومما خصه الله تعالى به من المعجزات القرآن: وهو آية حسيّة عقلية صامتة ناطقة باقية على الدهر مبثوثة في الأرض، ولذلك قال تعالى: ﴿وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين. أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم﴾ (5) ودعاهم ليلاً ونهارًا مع كونهم أولي بسطة في البيان إلى معارضته: بنحو قوله ﴿وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة مثله. وادعوا شهداءكم من دون الله﴾ (6) وفي موضع آخر: ﴿وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين﴾(7) وقال ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على ان ياتوا بمثل هذا القرآن لاياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً﴾(8)
فجعل عجزهم علمًا للرسالة، فلو قدروا ما أقصروا، إذقد بذلوا أرواحهم في إطفاء نوره وتوهين امره، فلما رأيناهم تارة يقولون:﴿لاتسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه﴾(9) وتارة يقولون (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة)(10) وتارة يقولون: ﴿إئت بقرآن غير هذا أو بدله﴾(11) كل ذلك عجزًا عن الإتيان بمثله، علمنا قصورهم عنه، ومحال أن يقال: إنه عورض فلم ينقل فالنفوس مهتزّة لنقل مادق وجلّ. وقدرأينا كتبًا كثيرة صنّفت في الطعن على السلام قد نقلت وتدوولت(5).
ويمتاز القرآن على سائر المعاجز بأنّه يضمّ الى جانب كونه معجزًا جانب كونه كتاب تشريع، فقد قُرن التشريع بإعجاز ووُحدّ بينهما، فكانت دعوة يرفقها شهادة من ذاتها، دلّ على ذاته بذاته.
قال العلامة ابن خلدون: اعلم أنّ أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على نبيّنا محمد(ص).. فإن الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبيّ ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه، والقرآن هو بنفسه الوحي الدّعي، وهو الخارق المعجز فشاهده في عينه ولا يفتقر الى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي، فهو أوضح دلالة، لاتّحاد الدليل والمدلول فيه.
قال: وهذا معنى قوله(ص): (ما من نبيّ من الأنبياء إلاّ وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الذي اُوتيته وحيًا أُحي التيّ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة). يشير الى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوّة الدلالة، وهو كونها نفس الوحي، كان الصدق لها أكثر لوضوحها، فكثر المصدّق الؤمن وهو التابع والأُمّة.
وقال الجاحظ: بعث الله محمدًا(ص) أكثر ما كانت العرب شاعرًا وخطيبًا، وأحكم ما كانت لغة، وأشدّ ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأذناها الى توحيد الله وتصديق رساله، فدعاهم بالحجّة، فلما قطع العذر وازال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار، الهدى والحميّة دون الجهل والحميرة، حملهم على حظهم بالسيف، فنصب لهم الحرب ونصبوا، وقتل من عليّهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتجّ عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحًا ومساءً الى أن يعارضوه إن كان كاذبًا، بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة، فكلّما ازداد تحدّيًا لهم بها، وتقريعًا لعجزهم عنها، تكشّف من نقصهم ما كان مستورًا، وظهر منه ما كان خفيّاً، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجّة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأُمم مالا نعرف، فلذلك يمكنك مالا يمكننا. قال: فهاتوها مفتريات، فلم يَرُم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر، ولو طمع فيه لتكلّفه، ولو تكلّفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقص، فدّل ذلك العاقل على عجز القوم، مع كثرة كلامهم، واستجابة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أُمته، لأنّ سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقص لقوله، وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق اتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال.
وهذا من جليل التدبير الذي لايخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات، ولهم القصيد العجيب، والجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ النثور، ثم تحدّي به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم فمحال- أكرمك الله- أن يجتمع هؤلاء كلّهم على الغط في الأمر الظاهر، والخطأ المكشوف البيّن مع التقريع بالمنقص، والتوفيق على العجز، وهم أشدّ الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة، الكلام سيّد علمهم، وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحلية في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة، وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثًا وعشرين سنة(مدة رسالته (ص) على الغلط في الأمر الجليل المنفعة فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفون ويجدون السبيل إليه، وهم يبذلون أكثر منه.
المصدر:
كتاب علوم القرآن، لسماحة العلامة الشهيد السيد محمد باقر الحكيم
1- الإعجاز ضرورة دفاعية قبل أن تكون ضرورة دعائية... إنّ رسالة الأنبياء على وضح من الحق الصريح، ولا حاجة الى إقامة برهان له دعواة الحقّ. وبالحقّ أنزلناه وبالحقّ نزل. ذلك الكتاب لا ريب فيه. يا أيها الناس قد جاءكم الحقّ من ربكم. ويرى الذين اوتوا العلم الذين انزل اليك من ربّك هو الحقّ. وليعلم الذين اُوتوا العلم أنّه الحقّ من ربك فيؤمنوا به... نعم، وأكثرهم للحقّ كارهون. وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوّا..
ومن ثمّ وقفوا في سبيل الدعوة إما معارضة بالوساوس والدسائس وعرقلة الطريق، فدعت الضرورة الى الدليل المعجز استيقانا ودفعا للشبهة، أو مكافحة بالسيف فدعت الحاجة الى القتال والجهاد..
2- مسند احمد: ج1 ص296 .
3- عن مقدمته على التفسير: ص 102-104 .
4- المقدمة (السادسة): 95 .
5- الإتقان: ج4 ص5-6. وله كلام تفصيلي آخر في إثبات إعجاز القرآن ، ذكره في(حجج النبوّة): ص144 فما بعدها. وقد نقله صاحب الإعجاز في دراسات السابقين: ص158-162 .