الدرس الثامن والعشرون
ويكفي في الجواب عن هذه الروايات ورفضها افتقار الآيات المزعومة للحد الأدنى من المستوى الفني والبلاغي المألوف في كلام البلغاء وأسلوبهم، فضلاً عن أن ترتقي الى روعة القرآن الكريم ومكانته السامية التي حيّرت البلغاء وأهل الفصاحة على مرّ العصور، حتى قال عنه الوليد بن المغيرة المخزومي: "ما هذا من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه يعلو ولا يعلى عليه"(1).
وهذا يشهد بأنّ هذه الروايات - رغم ورودها في صحاح الجمهور - من عبث الرواة أو دسائس المحرّفين والطغاة. وانّ عجزهم عن مجاراة القرآن الكريم مضموناً وأسلوباً خير شاهد على تميزه واعجازه ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾(2).
وقد تنبّه بعض المحققين منهم، فرفض هذه النصوص جملةً وتفصيلاً، معترفاً بعدم جدوى تأويلها بنسخ القرآن مثل السرخسي - بالنسبة لنسخ الحكم والتلاوة - والجزيري والسايس والعريض.
قال السرخسي: لا يجوز هذا النوع من النسخ - نسخ الحكم والتلاوة - عند المسلمين، وقال بعض الملحدين ممّن يتستّر بإظهار الإسلام - وهو قاصد الى افساده - هذا جائز بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً واستدلّ في ذلك بما روي أن أبا بكر الصديق كان يقرأ "لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر بكم" وأنس كان يقول: قرأنا في القرآن "بلغوا عنّا قومنا انّا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" وقال عمر: قرأنا آية الرجم في كتاب الله ووعيناها. وقال أبي بن كعب: "إنّ سورة الأحزاب كانت مثل سورة البقرة أو أطول منها".. والشافعي لا يُظن به موافقة هؤلاء في هذا القول، ولكنه استدلّ بما هو قريب من هذا في عدد الرضعات، فانّه صحّح ما يروى عن عائشة: وإنّ مما أنزل في القرآن "عشر رضعات معلومات يحرمن"، فنُسخن بـ"خمس رضعات معلومات"، وكان ذلك مما يتلى في القرآن بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).
قال: والدليل على بطلان هذا القول قوله تعالى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(3).. وقد ثبت انه لا ناسخ لهذه الشريعة بوحي ينزل بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولو جوّزنا هذا في بعض ما أوحي إليه لوجب القول بتجويز ذلك في جميعه، فيؤدي الى القول بأن لا يبقى شيء مما ثبت بالوحي بين الناس في حال بقاء التكليف. وأي قول أقبح من هذا؟!(4).
وقال الجزيري.. فمن المشكل الواضح ما يذكره المحدّثون من روايات الآحاد المشتملة على أنّ آية كذا كانت قرآناً ونسخت، على أنّ مثل هذه الروايات قد مهّدت لأعداء الإسلام ادخال ما يوجب الشك في كتاب الله من الروايات الفاسدة، فهذه وامثاله من الروايات التي فيها الحكم على القرآن المتواتر بأخبار الآحاد - فضلاً عن كونه ضاراً بالدين - فيه تناقض ظاهر(5).
1- تفسير القرطبي: 10 165، تفسير ابن كثير: 4 472.
2- سورة الاسراء: 88.
3- سورة الحجر: 9.
4- أصول السرخسي: 2 78 - 79.
5- الفقه على المذاهب الأربعة: 3 257.