الدرس الرابع والعشرون (نزول القرآن الكريم)
لاشك أنّ القرآن الكريم نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك كما دلّت عليه عدد من الآيات ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾(1) ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾(2)، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾(3).
وليلة القدر عند كثير أو الأكثر من علماء الجمهور ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك، والمعروف عند الشيعة الإمامية انّها لا تعدو الحادية والعشرين والثالثة والعشرين من شهر رمضان المبارك. ويرجح كثير منهم انها ليلة ثلاث وعشرين منه. حتى قال الصدوق(قدس سره): "اتفق مشايخنا على انّها ليلة ثلاث وعشرين"(4).
ولكن يقع هذا التساؤل ما معنى نزول القرآن في ليلة القدر مع أن المعروف والمتواتر بين المسلمين انّه كان ينزل متدرّجاً طوال عشرين عاماً أو ثلاثة وعشرين عاماً؟
وهناك آراء عديدة لتوجيه ذلك حيث نقتصر هنا على أهمها:
الرأي الأول: انّ القرآن كان ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في ليلة القدر من كل عام ما كان يحتاج إليه الناس في تلك السنة من القرآن، ثم ينزّله جبرئيل تدريجياً حسب مواقع الحاجة، فعلى هذا الرأي يكون المقصود من ليلة القدر في الآية الكريمة هو النوع وأن نزول القرآن توزع على عدة أفراد منه، لا ليلة قدر خاصة.
ونسب هذا الرأي الى ابن جريح والسدي، واسنده السدي الى ابن عباس، ونقله القرطبي عن مقاتل. ووافقه الحليمي والماوردي وغيرهما(5).
لكن هذا الرأي - بالإضافة إلى سذاجته ولا ينسجم مع ما هو المعروف من نزول سورة القدر في مكة، حيث كان النازل بعض القرآن فحسب، فلا يناسب ذلك صيغة الفعل الماضي ونسبة نزول كل القرآن في ليلة القدر كما تضمنتها الآيات الكريمة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾، ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ خصوصاً ان كثيراً من الآيات كانت تنزل لمناسبة طارئة طيلة أيام السنة، فلا معنى لفرض سبق نزولها في ليلة القدر.
نعم ورد في بعض النصوص ان القرآن كان يُعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كلّ سنة مرةً، وانّه عُرِض عليه في عام وفاته مرتين. لكنه أجنبي عن هذا الرأي.
الرأي الثاني: انّ معظم القرآن نزل في شهر رمضان، ونزول المعظم فيه صحّح نسبة نزول القرآن في هذا الشهر. احتمل هذا الرأي سيد قطب حيث قال: "الشهر الذي أنزل فيه القرآن اما بمعنى بدء نزوله كان في رمضان او انّ معظمه نزل في شهر رمضان"(6).
وهذه دعوى لا شاهد عليها، خاصةً اذا لاحظنا الآيتين الواردتين في نزوله في ليلة معينة هي ليلة القدر بالذات، حيث لاشك أن أكثر القرآن لم ينزل في ليلة القدر، كما تشهد بذلك القرائن المحيطة بنزول الآيات، وكذلك الروايات الدالة على فضل التعبد في ليلة القدر، والمتضمنة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يشتغل فيها بالعبادة، لا بتلقي الوحي، ولو كان معظم القرآن نازلاً في ليلة القدر لعُرف ذلك بين المسلمين ووردت فيه الروايات.
1- سورة البقرة: 185.
2- سورة الدخان: 3.
3- سورة القدر: 1.
4- الخصال: 2 102.
5- تلخيص التمهيد: 1 69.
6- في ظلال القرآن: 2 79.