فقه الدعوة عند السلف الصالح
قام النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى امتثالا لأمر الله: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} . وكذلك قام الرسل من قبله، فهي وظيفة الرسل كلهم: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} . وكانت الدعوة في حياة الصحابة رضي الله عنهم سيرا على المنهاج النبوي مجالا حيويا من مهمة الجميع، تتم من خلال الأقرب فالأقرب ومن خلال الاتصال المباشر واغتنام فرص المناسبات وغشيان الأندية وتأسيس العمل في الأماكن النائية. روى ابن القيم في زاد المعاد عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم ومجنة وعكاظ يقول: "من يؤمنني؟ من يؤويني؟ ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة؟" . إتباع الناس والإلحاح عليهم في كل مكان ومناسبة وبكل أسلوب حكيم، هذه سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فمكان المؤمن مجالس الناس ونواديهم وتجمعاتهم مهما كانت. وكلمته لكل من لقي عفوا في تنقلاته في الحافلة، في المدرسة، ومكتبه، ومعمله، وجواره، وشارعه، الدعوة إلى الله. ولا يترك الفرص تأتي بل يهيئها، يقصد الناس، يهجم لا يمل بالوجه الباسم، والكلمة الطيبة، والخلق الجميل.
عبد الله بن مسعود الرجل الداعية
لكن مع مرور الوقت وبعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بقليل ظهرت طائفة استحلت الجانب التربوي ورغبت عن الدعوة فابتدعت سنة الاعتزال في زوايا وجوامع وصوامع للعبادة والتزهد. فكان أول من تصدى لهم وأنكر عليهم سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. عرف ما في العزلة من مضادة للإسلام المتحرك إسلام الدعوة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأوضح لهم بدعتهم ونهرهم وعاد بهم إلى الصواب.
يروي لنا التابعي الكوفي عامر الشعبي أن رجالا خرجوا من الكوفة نزلوا قريبا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فأتاهم ففرحوا بمجيئه إليهم. فقال لهم: "ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد. فقال عبد الله بن مسعود: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا" . روى ذلك شيخ المحدثين ابن المبارك رحمه الله.
من هنا من عبد الله بن مسعود اقتبس الوعي الصحيح الداعون إلى الإسلام على تعاقب الأجيال. من يقاتل العدو؟ من يدعو الناس إذن لو اعتزل العابدون؟ وبقوا في مساجدهم ومنازلهم يبكون الإسلام ويتركون الأمة تقتلها الفتنة والغفلة ويفسدها المفسدون. إنه حزن قاتل وتعبد مرجوح وعزلة مضيعة وبدعة هادمة وإن تجلل كل ذلك بالإخلاص والنية الحسنة.
ألا وإن أمر الدعوة قد اشتد اليوم أكثر مما مضى، وحاجة الأمة إلى من ينقذها من الغثائية والبغي والفساد قد اشتد اليوم أكثر مما مضى. فلا بد إذا من هبة دعوية قوية تأخذ باليد وتجمع الشتات وتعيدها أمة مسلمة كما أرادها الله ورسوله أن تكون.
كما رأينا عبد الله بن مسعود يرصد نفسه في الكوفة لتفنيد العزلة والقعود، نرى سيدنا الحسن البصري سيد التابعين رحمه الله يرصد نفسه في البصرة لبعث همم الناس وشرح معنى الإصلاح والدعوة، فيتلو على أهل البصرة قول الله تعالى: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}. ثم يقول: هو المؤمن أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحا في إجابته.
وحين نقل ابن القيم كلام الحسن البصري عقب عليه فقال: "فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد" . مفتاح دار السعادة لابن القيم.
عبد الله بن المبارك على الأثر
فلما مات عبد الله بن مسعود وأصحابه، ذهب جيل المجاهدين من التابعين الذين رباهم الصحابة رضي الله عنهم عاد البعض إلى التخلي عن الجهاد والدعوة وركن إلى العزلة مرة ثانية في النصف الثاني من القرن الثاني، ولكن الله سبحانه وتعالى يهدي عبد الله بن المبارك [181ه] ليجدد حيوية الأمة من جديد.
كان رحمه الله تعالى ثقة وحديثه في الصحيحين والسنن والمسانيد يشهد بذلك. له مال كثير ينفقه على أهل العلم وله شعر إيماني جيد. لم يكتف ابن المبارك بذلك بل كان داعية مجاهدا يغزو كل سنة حتى صار بهذه الصفات رأس المحدثين في عصره.
تهز ابن المبارك هذه الكلمة التي نقلها في كتابه عن ابن مسعود رضي الله عنه فيتخذ منها نبراسا ويقوم بدور ابن مسعود ثانية حتى نراه ينكر على رفيقه الزاهد العابد الثقة الفضيل بن عياض رحمه الله ويخشن له الكلام وهو من أشهر العباد والزهاد في تاريخ الإسلام وأجودهم كلاما.
يبعث له ابن المبارك من طرسوس (مقره في جنوب تركيا)، وبعد معركة من معاركه وقبل أن ينفض عنه غبار المعركة، أبياتا شعرية رائعة جدا تظل حجة لكل داعية من بعده يصفه فيها بأنه عابد لاعب بعبادته:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل
فخيولنا يوم الكريهة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا عن مقال نبينا
قول صحيح صادق لايكذب
لا يستوي غبار خيل الله في
أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا
ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال ابن المبارك هذا الكلام لمن انصرف إلى العبادة والمجاورة للحرم المكي، فماذا نقول لمن ينصرف لا إلى كثرة العبادة بل إلى الراحة والترف وجمع المال والحرص على إرضاء الزوجة والأولاد؟.
عبد القادر الجيلاني الوارث الصادق
تتلاحق من بعد ابن المبارك أجيال وأجيال وإذا بالهمم تضعف مرة أخرى وإذا بالزهاد والعباد يعتزلون في الرباطات ويتركون إرشاد الناس. فإذا بالقرن السادس يلد لنا وارثا صادقا من وراث تلك الأقباس الأولى لابن مسعود وابن المبارك، ينتفض ويأبى وعيه الانسياق في تيار بدعة الترهب واعتزال الناس. فيقف ينادي الأمة ويدلها على الأمراض التي تهددها.
إنه الشيخ القدوة العارف عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى كان فقيها ثقة من فقهاء الحنابلة ببغداد، وكان شريفا علويا من ذرية حسن المثنى بن الحسن بن علي كرم الله وجهه. تكلم عبد القادر كثيرا وصاح بأهل العراق صيحات بليغة، ينتشل لنا أحد تلامذته من تلك الصيحات كلمات يدونها سريعا والإمام يخطب خطبه الأسبوعية سنة 545 ه، ويودعها كتابا سماه "الفتح الرباني والفيض الرحماني". قال الشيخ عبد القادر رحمه الله: "المتزهد المبتدئ في زهده يهرب من الخلق، والزاهد الكامل في زهده لا يبالي منهم، لا يهرب منهم بل يطلبهم لأنه يصير عارفا لله عز وجل، ومن عرف الله لا يهرب من شيء ولا يخاف من شيء سواه. المبتدئ يهرب من الفساق والعصاة والمنتهي يطلبهم، كيف لا يطلبهم وكل دوائهم عنده؟ ولهذا قال بعضهم رحمة الله عليه: لا يضحك في وجه الفاسق إلا العارف.
من كملت معرفته لله عز وجل صار دالا عليه. يصير شبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا. فيعطى القوة حتى يهزم إبليس وجنده، يأخذ الخلق من أيديهم.
يا من اعتزل بزهده مع جهله، تقدم واسمع ما أقول، يا زهاد الأرض تقدموا خربوا صوامعكم واقربوا مني، قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل، ما وقعتم في شيء، تقدموا".
تأملوا قوله: يا زهاد الأرض تقدموا.. خربوا صوامعكم..
خرب صومعتك أيها الهارب القاعد وخذ مكانك في صفوف إخوانك الدعاة.
وفي ذات الوقت كان داعية آخر في بغداد يحمل مثل هذا القلب الكبير ويصيح بأهل بغداد، إنه أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي مؤلف "زاد المسير في علم التفسير" و"تلبيس إبليس" وعشرات الكتب النافعة، أبى إلا الصراحة فاندفع يفضح ويقول: "الزهاد في مقام الخفافيش قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، من جماعة واتباع جنازة وعيادة مريض، إلا أنها حالة الجبناء. فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام" . صيد الخاطر لابن الجوزي.
وهكذا استمرت كلمات الواعين في كل جيل لا يسوغون لأحد أن يعتزل وبالأحرى أن يقعد عن الدعوة إلى الله ولو أكثر العبادة لأنها حالة الجبناء.
والقعود في البيوت من بعد الاعتزال في المساجد أكثر بعدا عن صفة المسلم الكامل، ولذلك كان للصحابة رضي الله عنهم إنكار شديد على من يتوارى في بيته ويأنس بالقرب من زوجته وأولاده ويترك الدعوة ويتخلى عن مكانه الذي يجب أن يحتله وسط إخوانه المرشدين. وقد حفظ لنا الرواة عن الصحابي الجليل المبشر بالجنة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه قال: "إن أقل العيب على المرء أن يجلس في داره" طبقات ابن سعد.
وما كان الدعاة يرضونه لأحد أبدا. هذا الإمام الغزالي رحمه الله يقول: "اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خاليا في هذا الزمان عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف.." إحياء علوم الدين.
على الداعية أن يكون رحالة سائحا متنقلا في حيه ومدن قطره يبلغ رسالة ربه ويدعو الناس إلى التوبة. انظر مثلا كيف كانت رسل رسول الله تسيح في البوادي تبلغ الأعراب كلمة الإسلام وتبشر به، ولم يكن ثمة انتظار ورودهم إلى المدينة. ألا ترى الأعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام فلما أخبره وقال: لا أزيد عليهن ولا أنقص. كيف كان قد بدأ سؤاله بأن قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟.. صحيح مسلم.
أتانا رسوله داعيا وكذلك الناس تؤتى، ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية.
لو فصّلنا كلام الأعرابي لتبين لنا كيف فارق هذا الصحابي الداعية المدينة وكيف فارق الأهل والمال والولد، وكيف اجتاز الصحاري وقطع من مسافات الطريق ليبلغ دعوة الإسلام.
وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها، لابد لها من تحرك ومبادأة وغدو ورواح وتكلم وتواصل.
مقام الدعوة المنزلة العظمى
من شأن الداعية أن يترصد أخيار الرجال في المجتمع، فيحتك بهم ويتعرف عليهم ويزورهم ويعلمهم طريق ضم الجهود وتنسيقها، فيجدد بذلك سيرة الإمام الداعية المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله.
قالوا عنه: كان الإمام أحمد "إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق أو اتباع للأمر، سأل عنه وأحب أن يعرف أحواله" . مناقب الإمام أحمد – لابن الجوزي.
لم يكن بالمنعزل المتواري الهارب من الناس.
ولا يكون الأخ داعية إلا إذا كان يفتش عن الناس ويبحث عنهم ويسأل عن أخبارهم ويتعرف عنهم ويزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم، ومن انتظر مجيئهم إليه في مسجده أو بيته فإن الأيام ستبقيه وحيدا يتعلم فن التثاؤب.
وتأمل قوله تعالى: { وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، قال يا قومي اتبعوا المرسلين} ، يس. إنها غطة العزم والحزم.
غط سيدنا جبريل عليه السلام سيدنا محمد ثلاثا في غار حراء، فضمه إلى صدره ضما شديدا، ثم قال له { اقرأ باسم ربك الذي خلق} . العلق.
وغط سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ابن عمه سيدنا عبد الله بن عباس فضمه إلى صدره وقال: { اللهم علمه القرآن} .
وغطك الدعاة ومن كان سببا لك في هذا الخير وضموك إلى صدورهم فعليك أن تغط غيرك هذه الغطة الواجبة التي تضع له حدا فاصلا بين عهد الفتنة وعهد حمل الأمانة بحزم وعزم ووفاء.
لقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم أفرح ما يكونون في العمل الدعوي وهداية أحد على أيديهم. كان الشيخ عبد القادر
يقول رحمه الله: "سبحان من ألقى في قلبي نصح الخلق وجعله أكبر همي" . ثم يقول: "إذا رأيت وجه مريد صادق قد أفلح على يدي: شبعت وارتويت واكتسيت وفرحت، كيف خرج مثله من تحت يدي" الفتح الرباني.
لا شك أن كل واحد منا أعظم ما يتمناه من الله أن يحشره المنزلة العليا في الجنة يوم القيامة. ولهذه الأمنية ثمن أن تكون في الدنيا في المنزلة عليا كذلك، وما المنزلة العليا في الدنيا إلا الدعوة إلى الله تعالى. "أحب ما تعبدني به عبدي النصح لي" .
وكما يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى في كتابه الآخر –فتوح الغيب- بعد كلام: "وجعله جهبذا وداعيا للعباد ونذيرا لهم وحجة فيهم وهاديا مهديا... فهذه هي الغاية القصوى في بني آدم، لا منزلة تفوق منزلته إلا النبوة" . وعد دونه في المنزلة آخر له "قلب بلا لسان، وهو مؤمن ستره الله عز وجل عن خلقه، وأسبل عليه كنفه وبصره بعيوب نفسه ونور قلبه" .
لماذا الثاني دون مرتبة الأول؟
لأن هذا المؤمن لا يملك اللسان، فلذلك نزلت مرتبته وتأخرت وفقد ما في ألقاب الأول من الهيبة والفخامة، فالأول: جهبذ وداعية وحجة والثاني: مستور فحسب.
ويقول ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر: "ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل بدلالة الخلق عليه. فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم."
الداعية الراحلة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي: "الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة" . الراحلة هو المسلم القادر على حمل هم الأمة، القادر على بذل النفس والنفيس جهادا في سبيل الله، القوي الأمين على ذلك.
ما أحوج الأمة اليوم إلى مثل هؤلاء الرواحل لينقذونها من الغثائية التي جعلتها في مؤخرة الأمم، ويحررونها من الاستبداد الجاثم على صدرها منذ قرون.
في دار من دور المدينة المباركة جلس عمر إلى بعض أصحابه فقال لهم: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدا وجوهرا أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: ولكني أتمنى رجالا من أمثال أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله.
رحم الله عمرا ورضي الله عنه، غيره يفكر في الخلاص الفردي بينما تفكيره وهمه خلاص الأمة وتمكينها وارتفاع رايتها على كل الرايات.
الرواحل هم الرجال من أمثال من ذكر سيدنا عمر رضي الله عنه. كان الرجل الواحد منهم يساوي المائة، والآخر منهم يساوي الألف كأمثال القعقاع بن عمر التميمي وقيل عنه: لصوت القعقاع في جيش خير من ألف مقاتل، لا يهزم جيش فيه القعقاع، ومنهم من يساوي الأمة كأمثال سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد قيل: رجل ذو همة يحيي أمة.
كن رجل العامة
من الخطوات المباركة الأخرى في حمل المؤمن لهم الدعوة أن يتسع في نطقه بالحق ويقصد العامة فيكون لهم إماما وقدوة وقائدا ومرشدا.
السلف الصالح من الدعاة كانوا أئمة للعامة، يتصدون لإرشاد كل الناس، فيتزايد حب القلوب لهم تدريجيا، ويرون فيهم القدوة الصحيحة التي لا مطعن فيها فيتبعونهم ويمتثلون أمرهم.
هذا الزاهد المشهور بشر بن الحارث الحافي رحمه الله، يعدد ثلاث خصال امتاز بها الإمام أحمد بن حنبل، وفضل بها عليه وقصر هو عنها، أحدها: "أنه نصب إماما للعامة" إحياء علوم الدين.
ووصفوا الأوزاعي بأنه: "كان رجل عامة". ومثله المحدث الثقة الفقيه أبو إسحاق الفزاري وكذلك خالد بن عبد الله الواسطي أحد المحدثين الثقات من شيوخ البخاري، كلهم وصفوا بأنهم كانوا: "رجال عامة". تهذيب التهذيب لابن حجر.
فحلل هذه التعريفات تجد أنهم كانوا دعاة يعلمون الناس، لم يحملهم علمهم على حصر أنفسهم بين الجدران، بل كانوا ينزلون إلى الناس ويقودونهم في المواقف السياسية وغيرها، كما قاد الإمام أحمد الجماهير في معارضة الجهمية والمعتزلة الذين أرادوا حرف عقيدة الأمة ببدعة خلق القرآن، حتى نصره الله عليهم.
يدعو في رجال معه
يدعو المسلم إلى الله تعالى، ويقصد العامة، ويؤمهم ويقودهم هذه مهمته، لكن في رجال معه. وهذا المعنى فقهه الصحابة والسلف الصالح فقها كاملا. فلم يكتفوا بالدعوة الفردية، وإنما أسسوا لجانا للدعوة وعملوا عملا جماعيا.
منهم الصحابي هشام بن حكيم القرشي رضي الله عنه. قال الزهري: "كان يأمر بالمعروف في رجال معه" . مفتاح دار السعادة لابن القيم.
فانظر قول الزهري: في رجال معه. فهو قد كون جماعة لتقوم بالدعوة.
وقال ابن عقيل: "رأينا في زماننا أبا بكر الاقفالي في أيام القائم إذا نهض لإنكار منكر استتبع معه مشايخ لا يأكلون إلا من صنعة أيديهم، كأبا بكر الخباز شيخ صالح أضر وتبعه جماعة مافيهم من يأخذ صدقة ولا يدنس بقبول عطاء –هدية سلطان- صوام بالنهار، قوام بالليل، أرباب بكاء، فإذا تبعه مخلط رده وقال: متى لقينا الجيش بمخلط انهزم الجيش" تلبيس إبليس لابن الجوزي.
الدعوة الناجحة إنما هي دعوة سبقها بالليل تبتل ودعاء، وافتقار ورجاء، ليفتح لها الفتاح أبواب القلوب وييسر لها الطريق إلى ربطها بخالقها سبحانه.