مناظرة المخالفين
إن مناظرة أهل الباطل ودحض شبههم قد جاء مدحه والحث عليه في كتاب الله تعالى، كما قال تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125]، وامتن الله على إبراهيم بإتيانه له الحجة، كما قال تعالى: ((وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)) [الأنعام:83]، وقد حكى الله سبحانه وتعالى عدة مناظرات بين أهل الحق وأهل الباطل، ومن ذلك: مناظرة إبراهيم لقومه كما في سورة الأنعام، ومناظرة موسى لفرعون كما في سورة الشعراء وغيرها.
وقد جاء عن السلف جواز المناظرة والمجادلة في بعض الأحيان.
فقد قال كثير من أئمة السلف: «ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا فقد كفروا»([1]).
وقال عمر بن عبد العزيز: «رأيت ملاحاة الرجال تلقيحًا لألبابهم»([2]).
وورد أيضًا في المقابل ذم المجادلة والخصومة في الدين.
قال الله تعالى: ((مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ)) [غافر:4].
وقال: ((وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)) [الشورى:35].
ومن السنة أدلة كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها: (أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)([3]).
قال النووي رحمه الله: «الألد: شديد الخصومة، مأخوذ من لديدي الوادي، وهما جانباه؛ لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر، وأما الخصم: فهو الحاذق الخصومة، والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حق أو إثبات باطل، والله أعلم»([4]).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا)) [الزخرف:58])([5]).
وقد جاء عن السلف ما يدل أيضًا على ذم المجادلة والخصومة في الدين.
قال عبد الرحمن بن مهدي: «أدركت الناس وهم على الجملة، يعني لا يتكلمون ولا يخاصمون»([6]).
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد: «أدركنا أهل الفضل والفقه من خيار أولية الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب والأخذ بالرأي أشد العيب، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم، وحذرونا مقاربتهم أشد التحذير»([7]).
وقال الإمام أحمد رحمه الله: «أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين»([8]).
وقال الإمام البغوي: «واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه»([9]).
ولكن هذا كله -أي: المدح والذم- لا يرجع إلى ذات الجدل والمناظرة، وإنما هو راجع إلى تحقق أهداف المناظرة وشروطها وآدابها.
أولاً: المقصود الشرعي لمناظرة المخالفين ومجادلتهم:
1) دعوة المخالفين وإيصال الحق إليهم، وإقناعهم ببطلان ما هم عليه من البدع.
2) الذب عن الدين، وتصفيته مما يلبس به المخالفين وما يشوبون به نصوصه من التحريفات والتأويلات.
3) حماية العامة من الوقوع في البدع، وتحصينهم من الشبهات وبيانها وبيان الرد عليها.
4) فضح المخالفين وتعرية باطلهم؛ لئلا يلتبس على الناس.
5) جمع الناس على كلمة سواء؛ لأن المسلمين مأمورون بالاعتصام بحبل الله، ولا يمكن اجتماعهم على غيره أصلًا، ففي نفي زغل البدعة تقدم نحو تحقيق هذا المقصد الشرعي العظيم.
وبناء على هذه المقاصد الشرعية ينبني الحكم على المناظرة والمجادلة، فمتى توافرت هذه المقاصد وتحققت كانت هذه المناظرة شرعية محمودة، ومتى انتفت هذه المقاصد ولم تتحقق كانت هذه المناظرة مذمومة.
ولهذا وضع العلماء ضوابط تميز المناظرة المحمودة عن المذمومة، وهي التي يكون عنها الكلام فيما يأتي.
ثانيًا: ضوابط المناظرة:
العلم: فلابد لمن يناظر المخالفين ويجادلهم من العلم، وقد ذم الله الجدال بغير علم فقال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ)) [الحج:3]، وقال: ((هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ))، وذكر الشاطبي عن أبي فروخ أنه كتب إلى مالك بن أنس: أن بلدنا كثير البدع، وأنه ألف لهم كلامًا في الرد عليهم. فكتب إليه مالك يقول له: «إن ظننت ذلك بنفسك، خفت أن تزل فتهلك، لا يرد عليهم إلا من كان ضابطًا عارفًا بما يقول لهم، لا يقدرون أن يعرجوا عليه، فهذا لا بأس به، وأما غير ذلك، فإني أخاف أن يكلمهم فيخطئ فيمضوا على خطئه، أو يظفروا منه بشيء فيطغوا ويزدادوا تماديًا على ذلك»([10]).اهـ.
1) ألا يناظر إلا من يطمع في هدايته وانتفاعه:
قال ابن عون رحمه الله: «سمعت محمد بن سيرين ينهى عن الجدال، إلا رجلًا إن كلمته طمعت في رجوعه»([11]).
إلا أنه يراعى في هذا بعض المقامات التي تتطلب المناظرة ولو لم يرج رجوع هذا المخالف وهدايته، وهذا كما لو طلب المناظرة أمام الملأ، كما يجري الآن على شاشات الفضائيات والإنترنت، وكان في ترك مناظرته خذلان للسنة وظهور للبدعة، وربما أدى ترك مناظرته إلى اغترار الناس به، وظنهم أنه على حق، وأن من ترك مناظرته على باطل.
ومن ذلك ما جرى في زمن الإمام أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الحافظ، عندما قام رجل من الإسماعيلية الباطنية، وطلب مناظرة الأمير (وشمكير) فانتدب الأمير للمناظرة الحافظ أبا بكر الإسماعيلي، وكان هذا في مجمع الناس، فناظره الحافظ فبهته([12]).
وقال الإمام أحمد: «قد كنا نأمر بالسكوت، فلما دعينا إلى أمر ما كان بدٌ لنا أن ندفع ذلك ونبين من أمره ما ينفي عنه ما قالوه، ثم استدل لذلك بقوله تعالى: ((وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125] »([13]).
وقد سئل الإمام ابن بطة([14]) عن السائل يسأل العالم عن مسألة من الأهواء الحادثة يلتمس منه الجواب أيجيبه أم لا؟ فقسَّم رحمه الله السائلين إلى ثلاثة أنواع، يهمنا منهم هنا النوع الثاني الذي قال عنه: «ورجل آخر يحضر في مجلس أنت فيه حاضر، تأمن فيه على نفسك، ويكثر ناصروك ومعينوك، فيتكلم بكلام فيه فتنة وبلية على قلوب مستمعيه ليوقع الشك في القلوب؛ لأنه هو ممن في قلبه زيغ، يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة والبدعة، وقد حضر معك من إخوانك وأهل مذهبك من يسمع كلامه، إلا أنه لا حجة عندهم على مقابلته، ولا علم لهم بقبيح ما يأتي به، فإن سكت عنه لم تأمن فتنته بأن يفسد بها قلوب المستمعين وإدخال الشك على المستبصرين، فهذا أيضًا مما ترد عليه بدعته وخبيث مقالته، وتنشر ما علمك الله من العلم والحكمة، ولا يكن قصدك في الكلام خصومته ولا مناظرته، وليكن قصدك بكلامك خلاص إخوانك من شبكته، فإن خبثاء الملاحدة إنما يبسطون شباك الشياطين ليصيدوا بها المؤمنين، فليكن إقبالك بكلامك، ونشر علمك وحكمتك وبشر وجهك وفصيح منطقك على إخوانك ومن قد حضر معك لا عليه، حتى تقطع أولئك عنه، وتحول بينهم وبين استماع كلامه، بل إن قدرت أن تقطع عليه كلامه بنوع من العلم تحول به وجوه الناس عنه فافعل»([15]).
2) أن يستخدم الأسلوب المناسب، ويحذر من كون المناظرة داعية للمبتدع في الإيغال في بدعته.
3) أن تكون المناظرة بغية الوصول إلى الحق وبيانه مع الإخلاص لله تعالى فيها، وأن تجتنب المقاصد السيئة، ومن هذه المقاصد السيئة: المجادلة بقصد دحض الحق ورده؛ كما قال تعالى: ((وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)) [غافر:5].
ومنها: أن يكون القصد منها هو مجرد المجادلة والعناد، كما أخبر الله تعالى عن كفار قريش في قوله: ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) [الزخرف:57].
ومن مقاصد الجدال المذمومة أيضًا: أن يكون المراد به إظهار العلم والفطنة والذكاء، وقوة الحجة، مراءاةً للناس وطلبًا للدنيا، فكل هذه المقاصد تفسد ثواب المجادلة، وتبطل أجرها ولو كانت في حق؛ لأنها لم يرد بها وجه الله تعالى، وإنما أريد بها حظ النفس([16]).
5) ألا تكون هذه المناظرة سببًا لظهور المخالفين، وفتحًا للباب لهم ليتطاولوا على السنة وأهلها.
يقول الإمام اللالكائي مبينًا ما جنته مناظرة المخالفين من جناية على المسلمين، مقارنًا بين حال المخالفين في عصر السلف الأول، وما كانوا عليه من ذل وهوان، وبين حالهم بعد فتح باب المناظرات معهم عند بعض المتأخرين، وما أصبح لهم بسبب ذلك من صيت وجاه حتى أصبحوا أقرانًا لأهل السنة في نظر العامة يقول رحمه الله:
«فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة، يموتون من الغيظ كمدًا ودردًا، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلًا، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقًا، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلًا، حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة، وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة، حتى تقابلت الشبه في الحجج، وبلغوا من التدقيق في اللجج، فصاروا أقرانًا وأخدانًا، وعلى المداهنة خلانًا وإخوانًا، بعد أن كانوا في الله أعداءً وأضدادًا، وفي الهجرة في الله أعوانًا، يكفرونهم في وجوههم عيانًا، ويلعنونهم جهارًا، وشتان ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين»([17]).
([1]) جامع العلوم والحكم (1/27).
([2]) جامع بيان العلم وفضله (2/972).
([3]) البخاري (2/867) (4/1644) (6/2628) (2325) (4251) (6765)، مسلم (4/2054) (2668).
([4]) شرح مسلم (16/219).
([5]) الترمذي (5/378) (3253)، ابن ماجة (1/19) (48)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1/33).
([6]) الإبانة الكبرى (2/529).
([7]) المصدر السابق (2/532).
([8]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/156)، الآداب الشرعية (1/201).
([9]) شرح السنة (1/216).
([10]) [آل عمران:66].
([11]) انظر: الاعتصام (1/44).
([12]) انظر تفاصيل القصة في الاعتصام (1/202-203).
([13]) الإبانة الكبرى (1/390).
([14]) عبيد الله بن محمد بن محمد، أبو عبد الله العكبري المعروف بابن بطة، محدث، وفقيه من كبار الحنابلة. ولد بعكبرا وتوفي بها سنة (387)هـ. صنف كتبًا كثيرة، أهمها (الإبانة على أصول الديانة).
([15]) الإبانة الكبرى (2/542).
([16]) موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع (2/605-606).
([17]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/19-20).