الدرس الخامس والعشرون
الرأي الثالث: ان القرآن نزل جملةً واحدةً في ليلة القدر الى بيت العزة او البيت المعمور، ثم نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) متفرقاً خلال ثلاث وعشرين سنة، وقد اختار هذا الرأي جماعة من المحدّثين وغيرهم، معتمدين على نصوص وردت من الفريقين.
قال الشيخ الصدوق: "نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة الى البيت المعمور في السماء الرابعة، ثم نزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة، وان الله اعطى نبيه العلم جملةً واحدة ثم قال له: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ "(1).
ونحوه ما ذكره المجلسي(ره)، وحكي عن الطبراني وغيره عن ابن عباس قال: "أنزل القرآن ليلة القدر جملة واحدة الى السماء الدنيا، ووضع في بيت العزة، ثم أنزل نجوماً على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في عشرين سنة" وقال جلال الدين السيوطي: "وهذا هو اصلح الاقوال واشهرها"(2).
وروى الشيخ الكليني - بسنده - عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزّوجل: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾(3) وانّما أنزل القرآن في طول عشرين سنة، بين أوله وآخره؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام): "نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان الى البيت المعمور، ثم نزل في طول عشرين سنة" ثم قال: "قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، واُنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان، واُنزل الانجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، واُنزل الزبور لثمان عشر خلون من شهر رمضان، واُنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان"(4).
وروى السيوطي بسنده الى جابر بن عبدالله الانصاري قال: "انزل الله صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان وانزل التوراة على موسى لست خلون من رمضان، وانزل الزبور على داوود لاثنتي عشرة خلت من رمضان، وانزل الانجيل على عيسى لثماني عشرة خلت من رمضان، وانزل الفرقان على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأربع وعشرين خلت من رمضان"(5).
الرأي الرابع: ان القرآن نزل - بمعناه أو بحقيقته البسيطة الجامعة - دفعة واحدة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ثم نزل بألفاضه مفصّلاً وتدريجياً عليه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليبلّغه الى الأمة. وقد اختار هذا الوجه الفيض الكاشاني والعلاّمة الطباطبائي - على اختلاف بينهما فى توجيهه وخصوصياته - حيث وجه الكاشاني النصوص الآنفة بقوله: "وكأنّه اريد بذلك نزول معناه على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾(6) ثم نزل طول عشرين سنة نجوماً من باطن قلبه الى ظاهر لسانه كلّما أتاه جبرائيل (عليه السلام) بالوحي وقرأه عليه بألفاظه"(7).
أما العلاّمة الطباطبائي فقد وجه هذا الرأي بما ينسجم مع رأيه في تفسير الكتاب فقال: "ان الكتاب ذو حقيقة اخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي، وهي حقيقة ذات وحدة متماسكة لا تقبل تفصيلاً ولا تجزئة، لرجوعها الى معنى واحد لا أجزاء فيه ولا فصول، وانّما هذا التفصيل المشاهد في الكتاب طرأ عليه بعد ذلك الإحكام، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾(8). وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾(9). وقال: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ﴾(10).
اذن فالمراد بانزال القرآن في ليلة القدر انزال حقيقة الكتاب المتوحد الى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) دفعة، كما انزل القرآن المفصّل في فواصل وظروف على قلبه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ايضاً تدريجاً في مدة الدعوة النبوية(11).
1- الاعتقادات: 101.
2- يراجع تلخيص التمهيد: 1/78.
3- سورة البقرة: 185.
4- أصول الكافي: 2 628.
5- الدر المنثور: 1 189.
6- سورة الشعراء: 193- -194.
7- الصافي: 1 42.
8- سورة هود: 1.
9- سورة الواقعة: 77 - 79.
10- سورة الاعراف: 52.
11- الميزان: 2 15 - 16.